وصلت «الكارطة» ورق اللعب إلى ليبيا مع الإسبان عندما احتلوا طرابلس عام 1510، ولا تزال أسماء الأوراق تحمل الأسماء الإسبانية حتى اليوم. الأس الدوس التريس كواترو شينكوي شيش وكوال أي فارس، وموجيرة «ملكة» وري «ملك»، وأطلق الليبيون على سبعة الديناري اسم الحية، وهي ليست مهمة إلا في الشكبة.
في ذلك الوقت كان مستوى التقدم بين ضفتي البحر المتوسط غير كبير، وكانت طرابلس واحدة من أغنى المدن المطلة على المتوسط، ولا حقيقة للرواية التي تقول إن الإسبان قرروا احتلال طرابلس، بعد أن اكتشفوا أن سكان المدينة لا يحملون السلاح، وعرفوا ذلك بعد أن استضاف أحد تجار المدينة مجموعة من التجار الإسبان، وعندما أحضر بطيخة ليقدمها لهم لم يجد سكينا ليقطع به البطيخة، ولم يجد عند الجيران سكينا، وعندها استنتج الإسبان أنه يمكن احتلال المدينة بسهولة، غير أن وقائع المعركة التي أسفرت عن سقوط 6 آلاف قتيل من سكان المدينة، تؤكد أن الإسبان واجهوا مقاومة باسلة بالأسلحة.
وصل الإسبان إلى طرابلس بعد فشلهم في احتلال مدينة بجاية الجزائرية، بسبب تفشي وباء الطاعون في المدينة، وكانت خطتهم هي منع عودة المسلمين واليهود إلى الأندلس، وذلك باحتلال المدن الساحلية التي من المحتمل أن ينطلقوا منها ومن بينها طرابلس، وفي كل غزو واحتلال تتقدم الكلمات والمطبخ والألعاب بعد الجيوش مباشرة. ترحل الجيوش وتبقى الكلمات والأكلات والألعاب، وهذا ما حدث مع الإيطاليين فقد بقت أسماء قطع غيار السيارات حتى اليوم، بينما نفس قطع الغيار لها أسماء إنجليزية في مصر ودول الخليج، ولها أسماء فرنسية في بلدان المغرب الكبير.
في ذلك الوقت كان المجتمع الإسباني قد بدأ ينقسم إلى طبقات، وهو ما لم يحدث في المجتمع الليبي حتى الآن، فورق الديناري يرمز لطبقة النبلاء، وورق الكبي يرمز لطبقة رجال الدين، وورق البستوني يرمز للجيش، وورق السباطة يرمز للفلاحين. فيما بعد اصطحب المهاجرون الليبيون إلى تونس لعبتهم المفضلة حيث انتشرت هناك على نطاق واسع، وخاصة لعبة السكمبيل والبرنجي، ولأن اللعبة انتشرت أولا في طرابلس فقد لعبها صيادو السمك وقراصنة البحر، قبل أن تنتشر في الأرياف والبوادي، ففي لعبة السكمبيل يتواجه فريقان كل فريق يتكون من ثلاثة لاعبين. لاعب يطلق عليه الريس والباقي يطلق عليهم اسم البحارة. يتواصل الريس مع فريقه بالغمز فكل ورقة لها غمزة محددة، بحيث لا يعطي البحري الفرصة لريس الفريق الخصم أن يراه وهو يغمز رئيسه وإلا لعرف الورق الذي يحمله البحري، وتصل اللعبة إلى ذروتها عندما يحاصر الأس التريس، والتي يسميها الليبيون والتوانسة بالركبة عندما يضرب الأس التريس، يقف أعضاء الفريق الفائز ويرقصون بينما يتذوق أعضاء الفريق الخاسر طعم الخسارة المر والمهين، وبعد أن يتخاصموا مع رئيسهم يعودون للعب على أمل أخذ الثأر. هذه التفاصيل أضافها الليبيون ولم تكن موجودة في اللعبة، وهي تعبر بشكل سافر عن الكبت الجنسي الذي يعاني منه المجتمع الليبي والتونسي، والذي يتم تفريغ شحناته من خلال الركبة.
ترى من أين جاءت كلمة الكوز المستخدمة في لعبة السكمبيل، والتي تشير إلى الورق المسيطر ديناري أو كبي أو سباطة أو بسطون؟ في تقديري هي تحريف لكلمة غازي التركية التي كانت تطلق على كبار القادة العسكريين، ولقب بهذا اللقب مصطفى كمال أتاتورك بعد انتصاراته العسكرية في الحرب العالمية الأولى، وعندما زار بينيتو موسوليني ليبيا في مارس عام 1937، استقبله الليبيون بهتاف يقول «مرحبتين بكازي روما من غيره ما نبوا حكومة»، حيث قدم له المفتي أبو الأسعاد العالم ويوسف خريبيش «سيف الإسلام» هدية، ومدحه الشاعر أحمد الشارف بقصيدة يقول مطلعها «بالحزم أصبح موسوليني مالكاً ثقة البلاد فأصبحت تهواه، ومهمة الإقدام قد تركت له أثرا يطيب مدى الزمان شذاه، قد شاقه الوطن العزيز فزاره، وراه حقا من حقوق غلاه، لم يتخذ غير الوفاء له أبا والصدق خالا والثبات أخاه».
انتشرت اللعبة على نطاق واسع في المدن والأرياف، بينما فضل البدو لعبتهم القديمة «المخربقة» أو السيزة، والتي كانت منتشرة في الرياف أيضا ولكنها غير منتشرة في طرابلس، وهي لعبة لا تخلو من الاستراتيجية وتعتمد على محاصرة قطع الخصم ومنعه من الحركة، أو إجباره على التحرك باتجاه واحد ثم ينقض على قطعه فيخرجها من الرقعة، التي تتكون من 64 حفرة على التراب، ومن 24 قطعة من الحجارة لكل لاعب، بشرط أن يختلف لون قطع الخصمين، ويسمي كل لاعب الحجر باسم الكلب، ولعلها تأثرت بلعبة الشطرنج ففي نهايتها يعلن الفائز قائلا «كلبك مات»، وهي لعبة مناسبة لنمط الإنتاج البدوي والريفي الذي تسود فيه النزاعات المسلحة، ولهذا يختار كل نمط ألعابه التي تحفزه على التخطيط والهجوم والدفاع، وهي لعبة فردية يلعبها فقط لاعبان وقد يتدخل المتفرجون لتنبيه أحد اللاعبين للفخ الذي قد يقع فيه، بينما تعتمد لعبة الكارطة على روح الفريق والتنسيق والكتمان وهو ما يناسب نمط الإنتاج المديني، وهناك ألعاب عديدة يلعبها الأطفال سواء كانوا ذكورا أو إناثا بما يناسب دورهم في الحياة، ففي الألعاب الذكورية تبرز لعبة الشاش وهي لعبة عنيفة، تلعب بكرة تصنع من الخيش ويتقاذفها فريقان، وكلما اقترب لاعب خصم من حامل الكرة يصفعه على قفاه، كما ظهرت لعبة الرود وعشرة دونك عشرين وتخطي الجرد وتل الحبل، بينما تلعب البنات في الريف بالعرائس التي يصنعهن من فائض القماش، وفي المدينة تلعب البنات لعبة النقيزة، بعد أن يرسمن على الرصيف مربعات يتخطينهن وأعينهن مغمضة، في حين يلعب الأولاد لعبة الوابيس، حيث يبحث أحدهم عن بقية الأطفال بعد أن يختفوا في الجوار. اليوم غزت الألعاب جميع أنحاء الكرة الأرضية وتحولت إلى صناعة تدر ملايين الدولارات، ولكنها تحولت إلى ألعاب فردية يلعب فيها الإنسان مع الآلة.
بوابة الوسط | 31 مارس 2025م