كان ابن خلدون جريئا ؛ فقد كاشفهم بالحقيقة
والمكاشفات في وطني سلبية، ذلك أنها تؤذي وتجرح،
فكل همهم أن يضربوا وجه المستمع بالحقيقة، أو التي يظنون أنها حقيقة، وأما مكاشفة ابن خلدون فهي مقنعة أنيقة.
لقد وضح لهم أن رغيف خبزهم لا يستطيع شخص واحد إنتاجه ؛ طحين وعجين وخبز ومخبز وخباز،
إلى غير ذلك من المفردات والأشخاص والأدوات،
ليصلك رغيف الخبز مليئاً بالبروتين والفيتامينات.
ولقد تعرفت على فكر ابن خلدون منذ طفولتي، وفهمت أن ابن خلدون يريد أن يقول : إن الإنسان اجتماعي بطبعه فجاءني خطابه قويَّ الحجة، ولم أكتشف في طياته الأسرار
ولكنني فهمت بعد ذلك معنى التراحم، الذي يشرق من خلال التعاون على إنتاج رغيف خبز.
ولم يستطع القرَّاء أن يستوعبوا هذه المشاعر، وتجاهلوها قائلين : هل هذا الكلام الذي تقوله مكتوب؟ قلت لهم : هذه أمور لا تُكتب، و كنت أعذرهم قليلا ؛ فالرغيف الذي كان يُخبز في أيام ابن خلدون يختلف عن الرغيف الذي يُخبز في أيامنا، فالذي يُخبز في أيامنا هو صنع آلات لا تفهم و لا تشعر، و أما في أيامهم فقد كانوا يسكبون الطحين مع الماء بأيديهم، و يعجنونه بأيديهم، و يوقدون نار التنور (الفرن) بأيديهم، و يخبزون بأيديهم، فكانت أعمالهم هذه مزيجاً رائعاً من المشاعر، و لهذا كانوا يفهمون فهماً عاطفياً بأن من كُلِّف بالعجن أو الخبز يستحق أن يأكل مما تعبت فيه يداه، و ناله تعب عجنه و حر خبزه، فلو أحضروا له أفضل رغيف في العالم فلن يكون لذيذا كلذة الرغيف الذي تنتجه يداه، و هنا ترقد حقيقة العاطفة
ولم يفهمني القراء في كل ما قلت، وكانوا يتساءلون دائماً عن أسباب المجاعات، ولماذا يطير رغيف الخبز من أفواه الناس وكأنه عصفور بريّْ
ومع ذلك كررت لهم قائلاً : رغيف الخبز يا سادتي تخبزه الآلات، ولقد تحول الناس إلى رجال روتينيين، يقذفون الماء والطحين في الآلات ؛ فيخرج مخبوزاً مطحوناً بلا تراحم أو عاطفة
لو كان ابن خلدون حياً لرجوته أن يضيف معاني التراحم إلى خطابه، ولعل كبار السنِّ يُحدثونكم عن أجدادهم، وكيف كانوا يشعرون بالخجل إذا علموا أن شخصاً في الحيِّ نام جائعاً بلا رغيف خبز.
كانت حياة القراء صاخبة، والآلات تطحن وتعجن وتخبز، ومع هذا كنت أسعى جاهداً من البدء لأكون نزيها، وكانت الميادين واسعة لأعجن فيها رغيفي، وكنت أشعر أنني أركض فيها وحيدا، ذلك أن الطيور البشرية حولي كانت لا تعرف أن رغيفاً واحداً مني لا يكفي في مواجهة هذه المجاعات، وأنه لا بد أن تجتمع عملياً وعاطفياً كل أرغفة الخبز، لينجو العالم وينام بلا جوع، ويصحو بلا جوع.
لقد نجحت الطيور البشرية القاسية في كل شيء، وصفعت الناس بأرغفة خبز لا تُسكت صراخ أمعائهم، لأنها استغنت عن الرفيق واكتفت بالطريق وأما أنا ففي نهاية الجولات لم أفز، لأنني لم أقتنع بالطريق إلا مع الرفيق، وكنت أنشد أرق الكلمات وحدي، وأركض بنشاط وتصميم وحدي، وأصحو كل يوم برغيف لا يُشبع الأوفياء.