الشاعرْ الكبير شاعر الحب والشباب كما أنه شاعر المدينة وأقصدُ هنا شاعر مدينة طرابلس الشاعر على صدقي عبد القادر.. لم يسبق لأحدٍ من الشعراء وأن خلَّد مدينة في شعرهِ كما فعل هذا الشاعر مع هذه المدينة الجميلة والتي لم تعطِ لشاعرنا الذكرياتِ الجميلةِ والهواء النقي والهوي العذري فحسبْ. بل أعطتهُ الحياةَ… وهو ما يصادفنُا كثيراً في قصائدِ هذا الشاعْر والذي يحاوُل كما هو واردُ في معظمِ قصائدهِ أن يردَ الجميل لهذهِ المدينةِ الخالدة فحتى ولم يذكرها بالاسم في أي نصٍ من نصوصَه فلابد وأن يشير إليها ولو بأصبعه أو أن يذكرها من خلال شبابيكها المطلةِ على باحاتِ الأسواقِ والحواري المعطرةِ بنسيمِ الفل والياسمين الطرابلسي الشهير أو أن يُعرج عليها من خلال مروره على بيوتِ الأحبابِ في عشايا هذه المدينة الفاتنةِ حتى أنه أصبحَ من الصعبِ جداً على من يحاول أن يَتًّبع خطى هذه الشاعر من خلال ما يكتبه من قصائده أن يفرقّ بينه وبين ما أحب من معالمِ هذه المدينة والشاعْر على صدقي عبد القادر الذي يعيشُ محتفلاً بالشعر كرسّ الكثير من شعرهِ لمدينة طرابلس وكأنها هي (فاطمةُ) هذه الشاعر الذي جعل منها لازمةً في كل ما كتب من قصائدْ حتى كادت أن تكون عنواناً شهيراً لشعره. كما أنه الطفل الشاعر الذي يعيش محتفلاً بالحياة وفي هذا الخصوص يقول شاعرنا في إحدى اللقاءات التي أجريت معه:
” الإنسان لا يكون لذاتهِ إلا إذا كان طفلاً.. الدهشةُ لا تفارقه وتُضحكه كلُ الأشياء – يمدُ يَده فيكسرُ الأشياءَ وهو لا يكسرُ الأشياء عبثاً ولكنْ لغرضِ المعرفةِ والاكتشافْ فالشعرُ معرفة والحبُ معرفة لأن هناك معرفةً جديدةً تبلورتْ من خلال الشطب”
هذا ما يؤكده شاعرنا على صدقي عبد القدر في كلِ قصيدة جديدة يفاجئنا بها وكأنه يؤكدُ مقولة أحدِ النقاد الذي قال: “الشعر فن الشطب”..
وكعادة هذا الشاعر الجوال الذي أحب هذه المدينة فإنه يمر بنا عبر أزقةٍ وحواري ليقابلُ أناسِ يعرفهم وآخرين لا يعرفهم حتى أنناء حفظنا أسماء طرابلسية الملامح التي لا تستعمل إلا في مدينة طرابلس وهي (مناني) (ودوجة) (وفطيم) (وزوبة) وهي أسماء الدلال التي تطلق على خديجة وفاطمة ومنى والتي يستعملها كثيراً في شعره.
في حقيبتي وردة وتفاحة ولعبة
في حقيبتها جرس وحلوى ومرآة.
سافرنا معاً اليد في اليد.
والعين في العين.
والاشتهاء في الاشتهاء.
في هذا النص تنقلنا الصورة الشعريةِ عبر حقائب الطفولة التي تبتعد كثيراً عن مشاغل الكبار وهمومهم فهي ليس حقائب لنقل الوثائق الرسمية وصكوك المال وحجج الأراضي وإنما تحتوى على أشياء نحن في حاجة إليها لأغراض أخرى تتعلق بالعواطف والأحاسيس والمشاعر فالوردة بما تحمل من معاني الجمال وما تحتويه من الأريج الفواح وكذلك التفاحة التي يغلب شكلها وجمالها ولونها على أهميتها الغذائية وهو أمر أخر يجب إلا نغفل على أهميته. كما أن الجرس والحلوى والمرآة وهي دلالات عميقة لتأكيد الأنوثة ومتطلباتها خصوصاً عندما يقفل الشاعر هذا المقطع بالعين في العين والاشتهاء في الاشتهاء… حتى قول الشاعر: (أنا وهي اثنان ورقم اثنين يبقى اثنين حتى في الشتاء) وهو يؤكد ما يجب أن تؤدي إليه هذا العلاقة من إقامة حياة آمنة وقوية في وجه كل الظروف والمصاعب وتحمل المشاق والمتاعب في سبيل استمرار الحياة إلى أن يقول: (أنا وهي اثنان ورقم اثنين لابد وأن يمر به أكبر الأرقام).
حيث يبقى رقم اثنان رقماً مهماً مهما زادت الأرقام.. وهنا يقصد الشاعر بناء الأسرة التي هي من أصل اثنين.
في المقطع الثاني الذي كان بعنوان (السكر والطير الأخضر) يقول الشاعر على صدقي عبد القادر :
افتح حقيبتي وأشبك الورده.
الحمراء بشعرها.
أهديها تفاحة حقيبتي فتضعها.
على الخد مرة وبالفم مرتين.
ثم تضعها على فمي مرتين وتبتسم.
واضع بيدها لعبة حقيبتي ونلعب معاً.
نلعب لعبة السكر
والطير الأخضر.
من خلال هذا النص المشحون بالمفردات الفاعلة والجمل الدالة على أكثر من معنى نجد أن الشاعر قد استطاع أن يوظف هذا النص في إصابة أكثر من هدف بالإضافة إلى الصورة الشعرية الخالية من التعقيد والمناورة لهذا الشاعر الذي يحسن اصطياد الصور البسيطة والعفوية ليجعلها أكثر تالقاً وفاعلية فالحقيبة والوردة والتفاحة والخد هي مفردات ربما نجدها على مفترق الطرق كما يقولون ولكن الشاعر على صدقي عبد القادر استطاع أن يرصّع بها نصاً جميلاً لصورة هي في الظاهر أقرب إلى علاقات الطفولة ولكننا نجدها في لحظة تأمل هي أعمق من ذلك بكثير حتى أن لعبة السكر والطير الأخضر بالإضافة إلى أنها لعبة يمارسها الأطفال إلا أنها تعنى متعة الوقت وحلاوته في لحظات انفلات طفولي يقطع الصلة بكل ما في هذا العالم من ضوابط وتقاليد وعادات ويتجاوز كل العوائق التي تحد من حب الإنسان للعلاقات الحميمة وممارسته للحرية والتي وهبها الله له ككائن يجب أن يعيش على فطرته التي تكفل له حياة حرة لا تؤمن بالسدود والحدود والأسوار العالية.
أما في المقطع الثالث والأخير من هذا النص (كنز السلطان) يقول الشاعر على صدقي عبد القادر:
(وتفتح حقيبتها ويرن جرس العمر).
وتذوق أصابعنا العشرة الحلوى دفعة واحدة.
ونرى معاً في مرآتها وجهينا
والعيد كما ولدته أمه.
ونسمع صوتاً من عمق الأرض
إنتما واقفان على كنز السلطان.
أحفرا تحت قدميكما
تجدا الكنز هدية لكما
الكنز به خواتم ومكاحل وأقراط.
وكأن الشاعر في هذه المقطع يأخذنا إلى مدينة الحلم حيث تختلط الصورة بالبراءة في استدعاء عفوي للأسطورة في إطراء عالي المستوى لمرحلة الطفولة (ويرن جسر العمر الجميل) إلا أن التلاحم الجميل نجده في المقطع الموالي (ونرى معاً في مرآتها وجهينا والعيد) وكأنه هنا جلس يعرض علينا ألبوما من الصور الطفولية الرائعة محتفلة بالعيد وهو ما يعنى دروة الفرح الطفولي وهوس الأطفال باحتفالات العيد وصخبه وضجيجه.
أما في المقطع الموالي والذي يقول فيه (أحفرا تحت قدميكما تجدا الكنز هدية لكما) فهو توظيف بريء للأسطورة خصوصاً عندما لا يتعدى مخزون الكنز بطبعه خواتم ومكاحل وأقراط وهو ما يعنى أن الأطفال أكثر حكمة وتعقلاً في هذا الكون عندما لا يهتمون بالذهب والفضة والأموال والخيل المسمومة وإنما أدوات الزينة من أقراطٍ ومكاحل هي أهم بكثير من كل هذا في بناء علاقة إنسانية مبنية على البراءة والنقاء والجمال وهي العلاقة الأطول عمراً من أي علاقة تبني على الطمع والجشع والدرهم والدينار.
في نص (القهوة بالذكريات) نقرأ للشاعر على صدقي عبد القادر وكأنه يود أن يقول لنا في جملة شاعرية جميلة سأظل ذلك الشاعر العاشق الذي لن يتنازل عن هذا الكنز السامي والنبيل الذي حباني الله به حينما يقول:
حتى لو تغير قفل الباب وليست الثوب المهرج المرقع.
حتى ولو ذهبت إلى (جزر الواق الوق)
المجهولة ورميت اسمي في البحر.
ليأكله الحوت وابقي بلا اسم لي.
لا يعرفني أحد سأهتدي حتى ولو نمت في الظلام
ويدي تحت وسادتي كعادتي.
سأهتدي إلى طيف من أحب وأنا تحت الغطاء.
سيأتيني سواء شربت القهوة بالسكر أو بالذكريات.
وهذا ما يحاول أن يؤكده شاعرنا على صدقي عبد القادر بأن الحب كائن جميل لا يعيش إلا في قلوب العشاق وأنه يعرف الطريق إلى قلوبهم مهما بعدت المسافات وتشعبت الطرق وأنه ذو بصيرة ثاقبة بخلاف ما هو شائع بين العامة عندما يرددون بأن الحب أعمى وهذا ما كان يود قوله في هذا النص الجميل أو في هذه الجملة الشعرية الطويلة بما حملته من جمال الصورة وقوة في المعنى.
أما في نص (القمر عض شفته) فيقول الشاعر:
هي قالت.. هذى الوردة إن لم تملأها اليوم.
ستملأها غداً وضحكت..
ورأيت بوجهها إشارة استفهام وتعجب.
وثلاث فراشات.
وضعت نظراتي على إشارة الاستفهام ونصف.
نظرتي على التعجب… وحاولت لمس الفراشات
قالت وأصبعها على فمي..
لالا حتى لمست فراشة واحدة
ابتسمت وأغمضت عينيها..
وأرتفع موج البحر بين فتحات أصابعي
والقمر عض شفته.
هنا تقول الشاعرة (حواء القمودي) حول نص هذا الشاعر: لكن من يدعي بأنه يقاسم على صدقي عبد القادر طفولته المدينة التي لا تنام والمدينة التي لا تشيخ.. الطفلة اللأهية على شط المتوسط… لا ترتبك خطاها… وحين تنام لا تنام حقولها… لا تغفوا عصافيرها ولا ينتهي المدى إلا عند قدميها.
نعود إلى شاعرنا الشاعر علي صدقي عبد القادر حين يقول في نص (كذبة حمراء):
أشتروا الخل والعسل…. كلوا بيدكم
أو بعينكم كما تشاءون
ألبسوا قميصاً مجنوناً ينبت الخوخ
أو يمطر الشهوات هذا لكم.
سموا اللون الأحمر أخضر
واللوز عنباً كما تشاءون
ودعوا إلى اويقات الجنون…
وسكر حلم ليلة ممطرة وكدبة حمراء تجول..
بين خذ فاطمة وفمها….
يقول الشاعر العراقي (عذاب الركابي) مخاطباً الشاعر علي صدقي عبد القادر:
أيها الشاعر – الطفل – العاشق إذا كانت الدنيا تفاحة فأنت نصفها المتألق في لونه… وطعمه وفراشاته… وإذا كان الشعر هاجساً شيطانياً بحق فأنت أنقى وأصدق من كان يتنبأ به…
أما الشاعرة (كريمة حسين ) فتقول :
مع قصائده يأخذ الزمن إجازة..
يعتزل بإحدى الزوايا يدخن غليونة…الأرض تكف عن الدوران
تعيد خارطتها من حب فرح مطر حمائم نجم شمس.
بينما يقول الشاعر(مفتاح العماري) حول شاعرنا :
من هنا ندرك مدى روعة تلك البداهة المكتشفة ببساطة نادرة للحد الذي يجعلك تشعر بعظمة الخيال وعفته…. شيء من الغرائيبية الآسرة تكمن دائماً في هذا الكلام.
ذلك لأن شاعرنا ينطق باسم الحلم حيث يتنفس الحدس برحابة وسط هذا الكون الفسيح حد الهلاك.