قصة

قصة رصاصة فقد

فاطمة فحيل البوم

من أعمال التشكيلية مريم هنيدي
من أعمال التشكيلية مريم هنيدي


إنها الثالثة بعد منتصف الليل، لا يسمع شيء عدا عقارب الساعة المعلقة على حائط في غرفته المظلمة، لم يعد يهمه الوقت. الثانية بعد الظهر هي ذاتها الثانية بعد منتصف الليل. الساعة تقف في مخيلته على ساعة الحزن إلاَ دقيقة صمتاً على روحٍ غائبة.

 يتململ في فراشه، لم يستطع النوم البتة، لم يعتاد المكان بعد أو رُبما لم يعتاد البلاد برُمّتها دون رفيقه. ينهض من على السرير وهو يتأفف، يزيح الستار على الجانب الأيمن ثم يفتح النافذة. يتكأ على قاعدتها. يتأمل اتِّساق القمر وهو في قلب السماء وكأنه المرة الأولى التي يراه فيها. أصوات حفيف الشجر والرياح تلفح وجهه.

يُخرج سيجارة من علبة سجائره. يقرَبها من ثغره. يشعلها من لهيب قلبه الذي يكاد يصل إلى هناك, أو ربما بلهيب قداحته. لم يكن يعرف من تسابق على إشعالها!. يشرد، تأخذه ذاكراته قبل سنوات، تستقر به في يوم تخرجه برفقة صديقه أحمد. كان أحمد الأخ الذي تبنّاه يوسف من دار الحياة، بعد تعب سنين. أخيراً اليوم أحمد ويوسف خريجين من قسم الهندسة المعمارية.


نهض أحمد في فزع خوفاً من أن يُداهمه الوقت. أخذ هاتفه المحمول من تحت وسادته, لا تزال الخامسة صباحاً. مكالمة فائتة من خطيبته المنهمكة بالتجهيز لحفل زفافهم. إنه العاشر من الشهر الجاري. لم يشعر أحمد برنين الهاتف الذي يعرف الغرض منه مُسبقاً. اعتاد أحمد الاستيقاظ كل فجر على اتصال خطيبته؛ ليتجه للمسجد المقابل لمنزلهم.

ولكن.. خلافا للعادة, لم يستيقظ يومها. ربما من فرط سهده ليلتها رفقة يوسُف وبعض الزملاء نتيجة التجهيز لمشروع تخرجهم. تخطى أحمد الاتصال على الشاشة وهو يضغط على أيقونة الرسائل. يقرأ كل رسائلها دون أي استثناء, يقرؤها بنهم,  كمن يأكل وجبته الأخيرة. كان يقرأ بقلبه  ليس بلسانه. يسمع حسيسها في كل مرة يعيد قراءة رسائلها.

تذكر كل شيء, دون أي استثناء. دعمها المعنوي المتكرر له عندما  أصابه الفشل أكثر من مرة في دراسته. إيقاظها له كل فجر. كان يردد لها دائماً أنا وليد قلبك. أنا ابنكِ بالمشاعر يا مريم. أنا طفلك ذو السبع والعشرين عاماً. أنتِ الهدية السماوية التي أرسلها الله في طريقي؛ لأعود لهذه الحياة بعدما كنت على حافة الموت.

تذكر قبل سنتين, عندما ذهب لوالد مريم يطلب يدها, فقابله بالرفض وقتئذ. لم يكتفِ بهذا، بل واصل تذكيره بأن أصل عرقه لا يشرفه. نزل عليه بوابل من عبارات الاستهزاء المقرونة بالاشمئزاز الطافح. نخر قلبه اليأس. كانت كفة الألم تحلق عالياً في ميزان حياته لتتدلى كفة السعادة أرضاً.

وافق والدها بعد طول عناء, بعد مشقة تكبدت جوفه, وكأن السعادة في حياتنا ندفع ثمنها جرعات من الألم سلفاً.

ولكن نسى أحمد، أو ربما تناسى، كل ذلك فور قبول والد مريم بطلبه، رغم الشروط التي وضعها الأخير كبنودٍ واجب عليه تحقيقها في هذا الزواج. إلاَ أنه وافق؛ فقط لينال مريم زوجةً له.

تذكر أحد رسائلها عندما كان أسير الحرب. لا تزال الورقة في محفظته إلى اليوم, أو بالأحرى لا تزال في ذاكرته, في قلبه, أو ربما حتى تجري في وريده. كتبت له فيها:

إلى عزيزي أحمد:

بأشواقي المثقلة إليك أكثر مما عهدت مني. بدمع عيني الذي أكاد أجزم بأنه يتخلل قطراته اللون الأحمر. بعاطفتي المفرطة التي تخبرني أنك ليس بخير على خِلاف ما أحاول أن أقنع به نفسي. إليك أكتب. ورغم عدم ثقتي بوصول الرسالة بين يديك، ولكن على يقين بأنها ستصلك شعوراً, أو ربما وصلتك قبل أن تُكتب. أريد أن أقول اشتقت لك وأنت أدرى بقلبي, أوليس أهل مكة أدرى بشعابها؟! فكيف إذ كنت وحدك!. كل الأفراد والشعوب والقبائل, كل فردٍ في قلبي أجَج نار الاشتياق داخل موطنك, حتى كدت أسمع أجيجها. موطنك التي تتسكع في شوارعه وتجهر بحبك فيه علناً. وليس الموطن التي تؤسر في أحد خنادقه الآن.

أكاد أن أموت يا أحمد, أموت أسيرة أشواقي التي ستقتلني, أشواقي التي تُكبَلني, تماماً كما كُبلت يديك يومها, ولك أن تتخيَل.

تذكر دمع عينيه الذي شاركه في كتابة رسالته التي ردَ فيها:

مريم العزيزة, لا أكذب عليكِ في شيء, أنام في مربع صغير, أصغر مما تتوقعين بقليل, أتكوم به, تماماً كما يتكوم الجنين في بطن أمه, لا توجد بقعة ضوءٍ هنا, كل الأماكن مُظلمة, لا أعرف النهار من الليل, كالحياة من دونك. في الحالتين لن أُبصر النور لطالما أفتقد رؤيتك, حالكة الظلمة دون عينيكِ السوداوين, ولكِ أن تتخيلي كيف للنور أن ينبعث من السواد, تلك هي أقصى درجات النور يا مريم, ولكن.. أقسم لكِ، وحدي من يستطيع رُؤية شمس الصباح وهي تشرق هنا, ليس تمييزاً في, أعلم أنك ستسألين كيف!, وسأجيبك, أتأمل عينيكِ عندما أغمض عينيَ وأنا أتكئ على حائط الزنزانة, فتشرع نوافذ قلبي على مصراعيها, وتشرق شمس الصباح بكامل جمالها يا مريم, مثلكِ تماماً, ليتوارى كل الظلام خلفها في ومضة, ويأتي الصباح بعدها. فلا تقلقي، لطالما أخبرتكِ سابقاً أن قلبي يؤدي كل وظائف جسدي، وأنتِ تسكنينه. كُوني بخير فقط لأجله وأجلي وأجل موطني الذي يقبع يسار خارطة جسدك.
مرَ كل شريط حياته عليه دون أن يُبتر أي جزءٍ منه. قطع شروده طرقات الباب. إنها والدته, “جنته”, كما يقول أحمد وهو يحادث عنها مريم أو أحد أصدقائه ويفخر بها.

عندما يتعثر لسانه بالحديث عنها, يعانق الفخر كلماته, يشعر بأنه على سحابة السعادة كونها والدته, كيف لا!، لطالما تكبدت شقاء الطريق وحدها في تربيته رفقة شقيقته التي تكبره بسنتين.

اسمها “مريم”.. هي الأخرى، لطالما ردد كثيراً لخطيبته مريم وهو يقول: “ربما شباكك الأولى التي وقعت فيها هي اسمك”. عندما ناداكِ أحدهم ذات يوم في ساحة الجامعة “مريم” ألتفتُ أنا مسرعاً لأراكِ, لم أركِ تماماً، بل رأيت قلبك, كان شيئاً ما نقيَاً، لدرجة الشفافية الطاهرة، حتى تمكنت من رؤيته مباشرةً, قلبكِ الذي كنت بِكره ووحيده.

نهض أحمد من مكانه ليقبَل جبين جنته.

ـ “خفت أن يفوتك الوقت, ستقطع مسافة لا بأس بها حتى تصل إلى منزل يوسف, ومن هناك إلى الجامعة”.. قالت والدته وهي تبحلق في عينيه بحنو, وكأنها تقول له أقترب أكثر, تحدث أكثر, لعلي أسجل لك حديثاً في ذاكرتي.

ـ “سأصل يا جنتي بعون الله, سأصل, فقط أدعي لي”. قال أحمد.

وبعد أن جهز أحمد نفسه, جلس رفقة والدته على طاولة الإفطار, كان يفطر بنهم على غير العادة. كان مفرطاً في كل شيء يومها, على عكس  والدته التي كانت مفرطة في تأمله.

بعد أن أكمل إفطاره, قبَّل جبينها, ضمته لأحضانها بلهفة. لم تكن لتتركه من بين ذراعيها, لولا رنين هاتفه.

أتجه أحمد إلى مركبته المتواضعة, وهو يقول دعواتك يا جنتي.

ـ أستودعك الله يا فلذة كبدي, لا تنسَ الاتصال بي فور وصولك.. 

قالت أمه وهي تتأمل وحيدها في داخل مركبته التي تكاد تختفي في منعطف الطريق.

وبعد وصوله لمنزل صديقه, ركن سيارته هناك؛ ليركب مع يوسف في سيارته, وبينما كانا في طريقهم إلى الجامعة، كان الأخير يضغط على مكابح البنزين بقوة بين الحين والآخر؛ لتزيد سرعة السيارة وينساب الذعر إلى قلب أحمد، كان كل مرة يضغط فيها على مكبح البنزين، يحدجه أحمد بنظرة ويقول له: فقط دعْ هذا اليوم يمر بسلام, ولك أن تمزح بقية العمر بأكمله.

تتعالى ضحكات يوسف وهو يسخر من أحمد ثم يردف قائلا: – أظن بأنك لا تخاف.

أريد أن أشعر أنني جلبت السعادة في يوم لقلب جنتي. أريد أن أرى تعب السنين كيف يتلاشى في ومضة. أريد للمريمان اليوم أن يبكيان فرحاً. قال أحمد وهو يفتح حقيبته التي تحتوي حاسبه الآلي وبعض الأوراق التي يحتاجها في المشروع بعد سويعات.

نظر يوسف لساعة يده، يفصلنا عن الثامنة بضع دقائق. أظنها كافية لأخذ فنجان قهوة.

أومأ أحمد إيجاباً وهو منهمك في قراءة بعض الأوراق. ركن يوسف السيارة بعد خمس دقائق. نزل مُسرعاً مُتجهاً نحو القهوة المقابلة من الجهة الأخرى.

لا يزال أحمد منهمك بين أوراقه. خرج يوسف بعد مرور ثلاثة دقائق تماماً وبيده كوبين من القهوة. زحمة سير كعادة بداية كل أسبوع، لم يتمكن يوسف من عبور الطريق مباشرة، وفجأة ودون سابق إنذار، يتعالى صوت الرصاص، كما تعالى النبض في قلب يوسف حينها, لتسقط بقايا الرصاص تحت أقدامه، أصاب الذعر قلبه، لم يعد يعرف هل يعود للوراء أو يتجه لسيارته وأحمد، يشتد الرصاص, يهتز المكان نتيجة المدفعيات الثقيلة، لتستقر أحد الرصاصات في رأس أحمد, يشتد الصوت أكثر؛ لينخر الرصاص قلب الأخير, لا زال يوسف تحت السقف أمام القهوة, عبر الطريق دون أن يدري كيف, ركب السيارة على عجل، ودون أن ينبس بحرف وقبل أن يضغط على مكبح السيارة، ينظر يمينه؛ ليسقط قلبه مع بقايا الرصاص الذي يتساقط هناك.

سُرعان ما ملأت الدماء السيارة، الياقة البيضاء باتت مشبعة باللون الأحمر، صرخ يوسف وهو يهز بجسد رفيقه, لا تمزح يا أحمد أرجوك, ليس هذا وقت المزاح. بدأ جبين يوسف ينضح عرقاً, لا إجابة من أحمد, وكأنه يجيبه بصمت, اليوم لا يوجد مكاناً للمُزاح يا صديقي.

يضغط يوسف على مكبح البنزين بقوة تفوق القوة التي كان يمزح بها قبل دقائق ويعود للوراء، يتجه لأقرب مشفى، يتسارع المسعفين لإسعاف أحمد فور وصوله، يدخل الطبيب مُسرعاً، يركض يوسف معهم, كان كل شيء في داخله يركض أيضاً, دقات قلبه, دمائه المتدفقة, تفكيره, كل شيء دون أي استثناء.


ما هي إلا دقائق حتى يمتلئ جسد أحمد بالأجهزة، ينظر يوسف من المربع الزجاجي الصغير أعلى الباب، لا شيء غير الأطباء يتكومون على أحمد كالنحل أعلى الخلية. نظر يوسف لساعته، إنها التاسعة تماماً، منذ ما يقارب الساعة ولم يخرج أحد، تتسارع نبضاته خوفاً.

يُفتح الباب.. وأخيراً يركض يوسف باتجاهه، لا زال الباب موارباً، أخيرا تخرج إحدى ممرضات الطاقم الطبي تمد يدها التي تحمل هاتفاً محمول إلى يوسف وهي تقول: “تفضل هاتف شقيقك، الاتصال ما بعد العشرون، يبدو أن الأمر في غاية الأهمية”. ثم دخلت على عجل، لم تترك الفرصة إليه ليسألها.

كان يريد أن يقول لها ليس بشقيقي, بل أكثر من ذلك بكثير، ربما شيئاً يشبه الأكسجين بالنسبة لي… 

أخذ يوسف الهاتف ووجهه ممتعض، يتأمل الشاشة وهو يزدرد ريقه بصعوبة، “جنة دنياي” كان الاتصال من والدته التي يخزن رقم هاتفها بهذا الاسم، تردد يوسف في الرد على اتصالها، كيف له أن يحرق قلبها بهذا الخبر!.

تنحنح ورد أخيراً قبل انقطاع الاتصال بثانية، وقبل أن يتحدث يوسف انهالت والدة أحمد باللوم والعتب على عدم رده ظناً من أنه أحمد.

شق الدمع طريق خد يوسف، لم يرد، أبعد الهاتف، مسح الدمعة قبل أن يتمادى ذلك السيل من عينيه، قال وهو يضع الهاتف على أذنه، عفواً عمتي، أنا يوسف، أحمد منهمك بالاستعداد للدخول مع بعض المهندسين.

ـ سامحني يا ابني، فقط قلقت عليه، نبهته فور وصوله أن يحادثني من هناك، ربما انشغل، بلغه دعواتي إليكم، رافقتكم السلامة.

أغلق يوسف خط الهاتف؛ ليبكي، ليأذن للسيل وسط عينيه أن ينجرف؛ ليواسيه دمعه الذي يتساقط…

كانت والدة أحمد قلقة، إحساس الأم يبصر كل شيء يا يوسف، يرى بقلبه ليس بعينيه كما علمت ابنها، لن تتوارى الحقيقة خلف كلمات يوسف الزائفة رغم خوفه من البوح بها لجنته، ومن له القدرة على إشعال النار بالجنة؟!

يرد يوسف على اتصالاً آخر من أحد زملائهم في الجامعة، أحمد في المشفى، إصابةً خفيفة، لربما لم نتمكن من الحضور.

لا أدرِ هل يوسف يواسي نفسه بالتخفيف من حدة الحادثة في كلامه أو أنها مجرد كلمات انسابت من بين ثغره.

يُفتح الباب وأخيرا، يخرج الطبيب بعجل، يَقْطب حاجبيه, قفازين ملطختين بالدماء، علامات التوتر منقوشةً على سُحنته. تخرج بعده طبيبةً أخرى، يلهث يوسف لعلّ بإجابةً شافية لغليله. يقف أمام الطبيبة، كيف هو أحمد؟!

سيدخل له أخصائي، نزف بإفراط، أدعِ له، ثم ذهبت, تركته واقفاً في منتصف القاطع، في منتصف التفكير، في منتصف الألم، في منتصف كل شيء، كل شيء.

في بداية القاطع الطويل، الأخصائي الذي تحدثت عنه الطبيبة قبل حين رفقة الطبيب الذي خرج، يرتدي الكمامة الطبية ويسرع بخطواته، يتجه داخل الغرفة التي يشق بها أحمد أنفاسه بصعوبة, يُغلق الباب في وجه يوسف من جديد, يتضرع إلى الله أن يرد له رفيقه، أن يرده سالماً غانماً لجنته.

ينظر يوسف بعد طول انتظار إلى ساعة يده من جديد، أنها العاشرة والنصف.

يتعالى صوت رنين هاتف يوسف للمرة ما بعد المائة ربما ولكن لا إجابة، يتعالى رنين هاتف أحمد مزامناً مع هاتف يوسف، جنته مرةً أخرى، لم يستطع يوسف الرد، ليس بحجةً يرميها إلى مسمعها لتقنع قلبها، تخطى الاتصال ونهض من مكانه متجهاً إلى الباب لعلَّ يرى شيئاً من المربع الشفاف.

قبل وصوله يُفتح الباب، يزيد يوسف من الإسراع في خطواته، يخرج الأخصائي برفقة الطبيب أيضاً، “طمني يا دكتور”، قال يوسف متوجساً.

وضع الطبيب الكمامة في سلة المهملات بجانبه ثم استطرد، أخاك الذي بالداخل؟!

ـ لا، صديقي بل بمثابة أخ وربما أكثر. 

زمَ الطبيب شفتيه وهو يستعد لخروج كلماته، ثم نطق أخيراً وهو يقول:

نزف كثيراً، حاولنا تعويض ذلك ولكن دون فائدة، الضربات كانت مركزة نحو القلب وفِي الرئتين، وحول النخاع الشوكي أيضاً, كان سيعيش مشلولاً إن تمكن من هذا، تسارعت دقات قلب يوسف فيما تسلل البطء إلى كلمات الطبيب وهو يربت على كتفه قائلاً، رحمه الله بموته أفضل من ميتة أخرى كان سيراها وهو على قيد الحياة.

تكوم يوسف كطفلٍ صغيرٍ تائه، وصل أحد زملائه بعد قليل، دخل يوسف في حالة هستيرية. لا يوجد ألم أعظم من ألم الفقد، موت أقرباء قلوبنا يقتل الحياة فينا فور موتهم. رصاصة الفقد التي خلفها موت أحمد في قلب صديقه تُعادل الخمس وعشرون رصاصة التي تسببت في قتله.

صرخ يوسف وهو يشتم الحرب والرصاص والساسة دون أن يبالي بأحد، حتى تكاد تجزم إذا ما رأيته بأنه في نوبة جنون، ولكنه في نوبة ألم, تكاد تجتاز الجنون أضعافاً.

بعد مرور ساعتين وبينما يجلس أحمد رفقة بعض زملائه مستنداً على الحائط، منتظراً انتهاء الإجراءات لدفن صديقه، يتعالى رنين هاتفه مرةً أخرى. يتأمل الشاشة وهو يهمهم “ربما قلبكِ قال لكِ هذا منذ ساعات الصباح الأولى، فدعكِ من زيف حروفي التي أحاول أن ألملمها”.

يتعالى رنين الهاتف مجدداً, يعيد النظر إليه برتابة, أنها مريم خطيبته, تذكر كلمات أحمد عند ساعات الصباح الأولى وهو يقول: “أريد للمريمان أن يبكيان فرحاً”, تنهد وهو يتكئ برأسه على الحائط. سيبكيان حزناً يا صديقي, حزناً ليس إلاَ.

أغلق نافذة الغرفة، أشعل النار بسيجارته الذي تحمل رقماً بعيداً، نفث براكين الألم من فمه، يتأمل الدخان وهو يتلاشى، يشعر بوخزة  في صدره، يبدو أنها رصاصة الفقد تحركت. تذكر يوسف كل شيء ليلتها، والدة أحمد التي توفيت بعد وفاة ابنها بشهرين, مريم التي مات كل شيء فيها وهي على قيد الحياة, أحمد الذي رحل عن هذه الحياة ولن يرحل من قلبه, تذكر ليلتها كل شيء, حتى آخر رحلة قضاها على البحر قبل وفاة صديقه؛ وطأت ذاكرته. كان بشوشاً، مرحاً، يحب الحياة ولكن الحياة لا تحب من يحبها. تذكر الصاروخ الذي قتل طفلين يومها على الشاطئ بينما هما في عرض البحر، وطأ خياله الفقيد وهو يكتب على الشاطئ: “متى سنقتل راء الحرب؟!”.

نفث دخان سيجارته الأخير وهو يتمتم: 

– قتلتكَ يا رفيقي, قتلتكَ وقتلتني وقتلت الجميع ولازالت على قيد الحياة.

مقالات ذات علاقة

شعبٌ من الغبار

عبدالمنعم المحجوب

الغراب الأبيض

حسين نصيب المالكي

ضاوية

سعاد الورفلي

اترك تعليق