حوارات

الدكتورة أمينة هدريز: السجن كان تحديًا للأديب،لأن يعبر عن جدل العلاقة بين عنف السجّان وتحدي السجين

حاورها: مهند شريفة

الباحثة د.أمينة هدريز

الألم ومكامن الإبداع صنوان تعاضدا على مدار التاريخ الإنساني الحافل بثنائية صراع الخير/الشر، مذ إهتدى الإنسان الأول لترجمة ما تجيش به لواعجه فنقش على جدران الكهوف آماله وأحلامه ومرثياته وطقوس يومه،ولربما رش جرعة ملح على أخاديد الجرح كفيلة بإضرام الحرائق وتسجيل الإنفجارات المتتالية، وفي هذا المقام يُطل السجن كنعصر حيوي في سياق العقوبات التي تفرزها أدوات السلطة التعسفية في حق كل من يُسوّل له مخياله أن يمارس حيل الشطط ويجدف خارج التيار،وفي المقابل حوّل المبدع والفنان السجن من عقوبة لتثبيط الهمم وفت العضد إلى سانحة وظفها لخدمة مشروعه الفكري ورسالته الإبداعية ضد كافة أشكال الإستبداد والتعنت التي تتبناها السلطة،وفي أغلب الأوقات وجد المبدع ضالته خلف القضبان الحديدية إذ تتوفر له عن غير قصد ظروف شديدة الخصوصية تضمن له حدًا من العزلة والهدوء قد لا يلقاها خارج أسوار السجن بمنأى عن ضغوط الحياة وإضطراباتها المختلفة، حتى أن بعض المبدعين يتحدثون بنوع من الغبطة ويقولون بأنهم قضوا أجمل الأيام داخل السجن ولاغرو فللمفارقة أن أعظم الأعمال الأدبية هي تلكم التي ولدت من رحم الزنازين ومن داخل الأجواء المتكلسة الرطبة …وحول حساسية هذا الموضوع نجري حوارًا مميزًا مع الناقدة والباحثة الدكتورة أمينة هدريز التي صدر لها حديثًا مؤلف جديد تُضيء فيه على أهم ملامح أدب السجناء.

ترصدين في مؤلفك الجديد(جدلية الحبس والإبداع في أدب السجناء) خصائص النزعة الإلهامية لدى السجين الذي يُزج به غالبًا لكونه قد جهر بفكرة ما إرتأت السلطة الحاكمة حجم خطورتها، هل تجيدن بأن السجن أو ظروف الإعتقال تُهيء فعلاً المُناخ الصحي لنضوج نص إبداعي مكتمل الدلالات ؟
ظروف السجن لم تكن أبدا مناخا صحيا للإبداع، لأن الإبداع يتطلب حرية التي هي ركيزة أساسية فيه، تخلق نص إبداعي داخل الزنازين يعد تحديا للأديب، لأنه يعبر عن جدل العلاقة بين عنف السجّان وتحدي السجين، وبين مقاومة الحزن والبكاء من ناحية ومحاربة الخوف من ناحية ثانية، كذلك يواجه المبدع السجين تحديا أكثر صعوبة وهو الحفاظ على روحه من الانكسار وعلى صحته النفسية من التلف والعطب، فربما كان إنتاج النص الإبداعي هو التحدي الأبرز للأديب السجين في تلك الظروف.
أتصور أن إنتاج النص الإبداعي رغم الظروف السجنية القاهرة كان الملجأ أو المنقذ لهؤلاء الأدباء من قساوة أوضاعهم داخل الزنازين، فتحدوا القهر بالإبداع.
أما من ناحية نضوج النص الإبداعي وعلاقته المباشرة بظروف السجن أود أن أنوه بأن أغلب الأدباء والشعراء كانت لهم تجربة إبداعية سابقة حتى (ولو كانت في بداياتها)، ما يمكن تأكيده أن الظروف الصعبة التي عاشها شعراء الحبس داخل الزنازين التي توزعت بين أربعة سجون ليبية أثرت بشكل واضح على تخلق النص الشعري خاصة، فابتعادهم عن الظروف الطبيعية في إنتاج إبداعي، جعل بعضهم يميل إلى تحميل قصائده رسائل إيديولوجية سياسية تُبلّغ عن مواقفهم الصامدة من جهة، وتخبر عن آخر المستجدات هناك بالداخل، لذلك جاءت قصائد كثيرة على شكل برقيات أو رسائل من السجن أو أناشيد وأغاني موجهة أو مهداة إلى أشخاص بعينهم، كما إن مرحلة الكتابة في الحبس امتدت لسنوات تقارب الأربعة عشر عاما تطورت فيها رؤية الشعراء، وهو ما نلاحظه من خلال الدواوين والقصائد التي كتبت في مرحلة مبكرة من بداية السجن عنها في مرحلة متأخرة بعد سنوات عديدة من السجن، فقد تميزت النصوص الإبداعية لمدونة الحبس بجماليات فنية وأساليب شعرية متفاوتة بين الشعراء والأدباء أنفسهم إذ امتازت تجربة كل أديب على حدا فكانت لكل منهم رؤيته الفنية وأسلوبه الخاص، جمعتهم تجربة جيل واحد وهو جيل السبيعينات، رصدت هذه التجربة واقعا سياسيا واجتماعيا عبروا فيه عن همّ ذاتي إلا أنه ارتبط بالهمّ الموضوعي تضمن رسالة مباشرتية عبر خطاب سياسي في أحيان كثيرة.

جدلية الحبس والأبداع.. في أدب السجناء الليبيين

رسالة الدكتوراة خاصتك بحثت تجربة السجن التي مرّ بها المبدع الليبي على وجه الخصوص في ضوء حملة الإعتقالات الجماعية التي تعرّضت لها طلائع النخبة المثقفة في ليبيا خلال فترة السبعينات من القرن المنصرم،في تقديرك ما مدى الإنعكاس المثمر الذي تجلى في التركيبة الشخصية للمثقف خاصة وعلى مسار تطور الحركة الثقافية في ليبيا عامة ؟
أدب السجن كتب في الفترة ما بين سنه 1973م ـــ 1987 عبّر عن مرحلة الإبداع في فترة السبيعينات من القرن الماضي في ليبيا، لهذا الإبداع خصوصية تميز بها من خلال تطور أدواته الإبداعية والرؤيوية، فعلى مستوى القصيدة الشعرية نجد أن النصوص الشعرية التي كتبت داخل الزنازين رصدت واقعا سياسيا واجتماعيا وإنسانيا وعبّرت عن لحظتها التاريخية وكانت شاهدة على فترة زمنية من تاريخ ليبيا المعاصر، رصدت الأحداث ووثقتها فكانت سجلا لمعرفة دقائق المرحلة وملابساتها، لم تقتصر مدونة الحبس الشعرية على رصدها لواقع السجن وتصوير معاناة الشعراء داخله، ولم تكن مجرد أداة توثيقية لواقع سياسي أو سجلا تاريخيا لأحداث ووقائع القمع والتعذيب في مرحلة معينة من تاريخ ليبيا المعاصر، بل انطوت على أساليب شعرية معاصرة تكشف عن تطور القصيدة الشعرية في الأدب الليبي وتجليها عند شعراء الحبس، فقد انتج هؤلاء الشعراء نصوصا شعرية تخضع لشروط الحداثة في بناء قصائدهم ، فهم لم يكتفوا في قصائدهم بالشعر الحرّ بمجرد اسقاط القافية وإقامة التفعيلة، بل بوعيهم بمفهوم تطور الشعر الغنائي الانفعالي الذاتي إلى مفهوم أكثر قابلية للبناء الدرامي وتعدد الأصوات فيه بتداخل الفنون الأدبية الأخرى ضمن بناء القصيدة ، مثل محاولة كتابة المسرحية الشعرية بخصائصها الدرامية بدل كتابة الشعر المسرحي الذي تغلب عليه الغنائية، أما بالنسبة للكتابة المسرحية النثرية نجد أن محاولة كتابة نص مسرحي بتقنية معاصرة تقوم على تقنية المسرح الارتجالي أو مسرح الشارع بمعنى بناء المسرح داخل المسرحية، كذلك يحتوى الخطاب المسرحي على ثنائية النص الدرامي والنص الموازي (الارشادات المسرحية) .هذه بعض الخصائص الفنية لتطور الإبداع لأدب السجن.

السجن يساهم بصورة ما في صقل شخصية المبدع وهذا ما يقودنا إلى التطرق لمسألة إرتباط الألم بالإبداع، لماذا تُشد دائمًا خيوط الإبداع بصور الوجع والألم.ألا يمكن للنص الإبداعي أن يتحرر من هذه الثيمة النمطية ؟
ليس شرطا أن يكون الألم والوجع هو الملهم للمبدع أو المحرك الأساس لإنتاج نص إبداعي، على أيه حال فالنص الإبداعي يعبر عن حالة وجدانية بالأساس مرتبطة بالظروف الموضوعية للكتابة تشفعها رؤية إبداعية ومهارات فنية وامتلاك المبدع لأدواته كل ذلك خلق خطابا فنيا سواء أكان شعرا أم نثرا.

كيف تقرئين مستقبل الحِراك الأدبي في ليبيا، أنجح المبدع الليبي في خلق خصوصيته الأدبية ؟
الخطاب الأدبي الليبي بنصوصه الإبداعية شعرا ونثرا له خصوصيته الفنية ، بعد أن خرج من تأثير التجارب الشعرية السابقة لرواد الحداثة الشعرية في الوطن العربي، فأنا أتصور أن الأدب الليبي بدأ يأخذ شكلا وانطباعا خاصا به على مستوى الرؤية وعلى مستوى التشكيل، لأنه ينهض بعبء رؤية الأدباء الليبيين لواقعهم ودورهم في منح هذا الأدب شكله الفني الذي يميزه كتجربة ليبية لها خصوصيتها، هناك أصوات شعرية شابة متميزة بدأت تفرض حضورها في مسيرة الشعر الليبي، كذلك الخطاب الروائي ولا ننسى تجارب الكتابة النسوية وخروجها من المحلية إلى العالمية.

برأيك ما هي أبرز العوامل التي تقف وراء غياب واقع نقدي جاد ينأى بعناصره عن الشللية والمجاملات الشخصية ؟ وهل غياب تفاعل نقدي حقيقي لعب دورًا في ضمور ملامح المشهد الأدبي الليبي ؟
أهم العوامل التي تقف وراء غياب واقع نقدي فاعل هي المنهجية العلمية وتطور أدوات النقد الأدبي، فما زلنا نتوسل بالمناهج التقليدية التي تعطي الأولوية للمؤلف وتأثير حياته عن نصه الإبداعي على حساب النص الأدبي في حد ذاته، النقد ما يزال ذاتيا انطباعيا لا يرتقي لمستوى المنهجية العلمية الصارمة لهذا نجد أن النقود بهذا المفهوم تهتم بالمجاملات الشخصية على حساب النص الأدبي. ما نحتاجه منهجية علمية تنظر إلى النص الأدبي من خلال بنياته التركيبية والدلالية وعمق معانيه بغض النظر عمن كتبه أي استنطاق دلالات النصوص من داخلها وليس من خارجها. هذا لا يتأتى في غياب المختبرات النقدية والندوات العلمية الجادة كحركة نقدية فاعلة، لأن حركة النقد هزيلة اقتصرت على البحوث الاكاديمية في الجامعات فقط دون حراك نقدي حقيقي.

مقالات ذات علاقة

جمعة بوكليب : لولا البوح على الورق لأصبت بالجنون

مهند سليمان

حمزة الفلاح: النص النثري لا يعدو كونهُ ساعةً رملية أكثر متانةً

رامز رمضان النويصري

الروائية الليبية عائشة إبراهيم للعمق: احتميت بالكتابة ضد أصوات القذائف واهتزاز الجدران

المشرف العام

اترك تعليق