د.جمال حسين علي | العراق
* يجب أن يلتزم المثقف قضايا مجتمعه.. لا أن يتعالى عليها ويكتفي بالتذمّر والانتقاد وإظهار العيوب
* لا يجوز أن يكرّس الحالة الموجودة أو يتجاهل وجودها.. فالناس – وليس المثقف فحسب – يعانون في جميع أنحاء العالم من الإقصاء أو التمييز أو الفقر المزمن
* أشكال التعبير الثقافي هي عوامل تمكينية تؤدي إلى الاندماج الاجتماعي.. ولطالما تم تقدير الحياة الثقافية والمشاركة فيها كعناصر حاسمة في تعزيز الاستقرار المجتمعي وخلق شعور بالانتماء والهوية المشتركة
* على الثقافة أن تسخّر قوتها لإدماج الفئات المهمشة.. فضلاً عن زيادة الوعي بينهم وبناء التنوع الثقافي كمورد إيجابي
* الكاتب يجلب إلى الصحافة الإحساس بالكلمة الصحيحة.. بينما الصحافة تمنح الأدب فرصة الاتصال بالواقع
* إنشاء مجتمع للجميع هو التزام أخلاقي للمثقف.. ويعكس التزامه دعم حقوق الإنسان الأساسية ومبادئ المساواة والإنصاف
* الإدماج الاجتماعي من خلال الثقافة هو حق منصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.. حيث لكل فرد الحق في المشاركة بحرية في الحياة الثقافية للمجتمع
* الأشخاص من جميع الثقافات يجب أن يكونوا قادرين على التعبير عن أنفسهم والتعريف بها والحصول – على قدم المساواة – على الفن ووسائل التعبير والنشر
* زراعة الثقافة هي مسؤولية المثقف ولا تتحمّلها الحكومات التي يبرز دورها في استخدام الأماكن العامة كمصلحة عامة تسمح للثقافة بالازدهار
بعض المثقفين، يرون أنفسهم فوق المجتمع دائمًا، بينما لا قيمة للثقافة إذا ما سارت وراء الركب وليس أمامه، وأن تكون بخدمة التنمية المستدامة للمجتمع، وليس عالة عليه تسترزق من إنتاجه، فيما يبقى العديد من المثقفين عاطلين عن الإنتاج الفعلي، وتقتصر مهمة معظمهم على الثرثرة في المقاهي وتبادل الأقاويل وعناوين الكتب الجديدة والمنشورات التي تدفع أكثر من غيرها.
مسؤولية المثقف
يجب أن يلتزم المثقف قضايا مجتمعه لا أن يتعالى عليها ويكتفي بالتذمّر والانتقاد وإظهار العيوب، وعليه أن يعترف بما جناه عقله من آثار مدمرة للإقصاء الذاتي الذي فرضه على محيطه الاجتماعي الذي يزداد تعقيدًا، لا سيما بسبب التحولات الديموغرافية والهجرة والتضخم والفساد وعدم احترام القوانين والجشع وغيرها من موبقات مجتمعنا المعاصر.
عليه أن يدرج الأفراد والجماعات في خططه كأحد المسؤولين عن استقرار وازدهار الكوكب، بغض النظر عن العمر أو الجنس أو الإعاقة أو العرق أو الأصل أو الدين أو الوضع الاقتصادي أو أي وضع آخر، ولا يجوز أن يكرّس الحالة الموجودة أو يتجاهل وجودها، فالناس – وليس المثقف فحسب – يعانون في جميع أنحاء العالم من الإقصاء أو التمييز أو الفقر المزمن، حتى في أكثر البلدان تقدمًا.
إن للإقصاء الاجتماعي عواقب سلبية على جميع أفراد المجتمع، وليس الأفقر أو الأكثر تهميشًا فحسب. فلماذا يعتقد المثقفون وحدهم بأنهم يتعرضون للإقصاء؟ ولا يفعلون أيّ شيء من أجل حل مشكلة الاستبعاد الاجتماعي؟!
يمكن أن تكون عواقب تعمق التفاوتات مدمرة وتؤدي إلى السخط الاجتماعي، وانخفاض مستويات الثقة في الحكومة والنخبة المثقفة الصامتة على حدّ سواء، ما يؤدي إلى زيادة الجريمة، والأمراض، والتدهور البيئي، واستمرار مستويات الفقر.
لم يحدد الكثير من المثقفين في معظم المجتمعات موقفهم من قضية المساواة في الدخل والثروة والأبعاد المتداخلة وآثارها على الناس، ألا يلاحظون أن عدم المساواة يقضي أيضًا على شعور الناس تجاه محيطهم وتقديرهم لذواتهم؟
آثار الثقافة
لسوء الحظ، فإن آثار الثقافة بعيدة عن المشكلات الحقيقية التي يعاني منها الكوكب، كتغير المناخ والصراعات المسلحة والتي تقضي على العديد من إنجازات التنمية البشرية التي تحققت في العقود الماضية، بل نرى المثقفين الذين يكتبون في الصحافة على سبيل المثال، يعكرون صفو النسيج الاجتماعي في العديد من البلدان، بل ويظهرون نوازعهم الشوفينية ويمارسون الضغوط على البلدان المضيفة للنازحين أو المهاجرين والذين يعيشون بلا جنسية محددة. بينما الثقافة هي المورد الرئيسي لبناء التماسك الاجتماعي، ومع ذلك لا يزال غير مستغل من قبل المثقفين.
إن أشكال التعبير الثقافي هي عوامل تمكينية تؤدي إلى الاندماج الاجتماعي. ولطالما تم تقدير الحياة الثقافية والمشاركة فيها كعناصر حاسمة في تعزيز الاستقرار المجتمعي وخلق شعور بالانتماء والهوية المشتركة.
قدرة الثقافة
علاوة على ذلك، تتمتع الثقافة بقدرة عالية على تحفيز المشاركة الفعالة للمجتمعات المحلية عبر جميع الأجيال في الحياة العامة.
على الثقافة أن تسخّر قوتها لإدماج الفئات المهمشة، فضلاً عن زيادة الوعي بينهم، وبناء التنوع الثقافي كمورد إيجابي. فالكاتب يجلب إلى الصحافة الإحساس بالكلمة الصحيحة، فيما الصحافة تمنح الأدب فرصة الاتصال بالواقع.
في الوقت نفسه، فإن مجتمعاتنا التي ضعف ارتباطها بشكل متزايد نتيجة تسريع التحول الرقمي والتحديات العالمية المشتركة، ينبغي أن تدفع المثقفين الاعتماد المتبادل في ما بينهم عندما يتعلق الأمر بتهيئة الظروف التي تمكن من ازدهار المجتمعات الشاملة التي تشرك المواطنين والمجموعات المتنوعة كأطراف فاعلة لتنميتها.
ولكننا نلاحظ بأنه نادرًا ما يكون الطموح الثقافي منصبًا نحو عملية الإدماج الاجتماعي، الذي هو بالأساس موضع نزاع من حيث المبدأ في الحياة السياسة العامة. لأنه لا يوجد مقاس واحد يناسب الجميع. في حين أن إنشاء مجتمع للجميع هو التزام أخلاقي للمثقف ويعكس التزامه دعم حقوق الإنسان الأساسية ومبادئ المساواة والإنصاف. وهو أساس الرخاء الذي يدعو المثقفون إليه بكل ندواتهم ومقالاتهم المدفوعة الأجر غالباً، مع علمهم أن الاستبعاد الاجتماعي والتمييز مكلفان للغاية. لذلك تعتبر الثقافة الرافعة القوية لمعالجة ذلك.
الحياة الثقافية
إن عدم المشاركة في الحياة الثقافية هو أحد أشكال تخلّف المجتمعات وفقرها الروحي وجهلها المعرفي، لأن أفراد المجتمع سيفقدون حقوقهم المدنية والسياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي هي مكفولة للجميع، يحترمها أيّ دستور جيد وأية خطة تبحث في مسألة «الثقافة والتنمية»، التي تضع الثقافة عاملا مهما في الإدماج الاجتماعي، وكذلك في مكافحة الفقر، مما يوفر النمو الاقتصادي ويضمن الحقوق الثقافية.
كما ان الإدماج الاجتماعي من خلال الثقافة هو حق منصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث تنص المادة 27 على أن «لكل فرد الحق في المشاركة بحرية في الحياة الثقافية للمجتمع، والتمتع بالفنون والمشاركة في التقدم العلمي وفوائده».
لذلك على الحكومات تنفيذ هذا الشرط الأساسي بضمان الظروف اللازمة للجميع للانخراط المستمر في التفكير النقدي، وإتاحة الفرصة لاستجواب الأفكار والتحقيق فيها والمساهمة فيها، بغض النظر عن الحدود المفروضة.
التنوع الثقافي
كما يعيد إعلان اليونيسكو لعام 2001 بشأن التنوع الثقافي التأكيد على هذا الحق، وينص كذلك، بموجب المادة 6 – «نحو وصول الجميع إلى التنوع الثقافي» – على أن الأشخاص من جميع الثقافات يجب أن يكونوا قادرين على «التعبير عن أنفسهم، والتعريف بها، والحصول على قدم المساواة على الفن ووسائل التعبير والنشر».
حتى مع الأخذ بوجهة نظر أكثر فاعلية، فقد ثبت أيضًا أن الإدماج الاجتماعي من خلال زيادة المشاركة في الحياة الثقافية له تأثير إيجابي على المجتمع ككل. في حين أنه ليس من السهل تحديد الروابط بين الثقافة والإدماج الاجتماعي، حينما يختفي المثقفون من الأنشطة المدنية والثقافية ولا يتدخلون حينما تحصل تجاوزات مقلقة على أسس الديموقراطية وسيادة القانون وحماية الحريات والحقوق الإنسانية العامة وصيانة التعددية، في وقت نرى اصطفاف الكثير من المثقفين في عالمنا العربي على وجه الخصوص، مبنيا على الطائفة والعرق والمنطقة والقبيلة في كثير من الأحيان.
المشاركة الثقافية
إن وضع تعريفات أوسع وأكثر شمولاً للتراث والإبداع ليس مجرد قضية أكاديمية، لكونه أمرا بالغ الأهمية لتصميم سياسات ثقافية لتحقيق عدالة اجتماعية أكبر.
لقد كان يُنظر إلى المشاركة الثقافية قبل كل شيء على أنها تتعلق «بالفنون» وعولجت من قبل معظم البلدان المتقدمة على أنها تحسب بالزيارات إلى المتاحف والمعارض والعروض المسرحية والموسيقية وغيرها من المجالات التي يطلقون عليها «الثقافة الرفيعة» التي تتبناها الدول عادة، ولكن القرن الحالي شهد ظهور الكثير من المؤسسات الخاصة والنوادي غير الرسمية للقراءة والفنون والمكتبات التي تقوم بدور أكبر بكثير من مجرد بيع الكتب، بتنظيم أمسيات ثقافية متنوعة وتدمج نشاطاتها مع نوادي القراءة وبعض المبادرات الشبابية الملفتة، بعيدًا عن النشاطات التقليدية المجدولة رسميًا والتي لم تطوّر نفسها، لاعتماد المؤسسات الحكومية في الغالب على موظفين لإدارة النشاطات الثقافية، وليس إلى موهوبين متطوعين يمارسون أعمالهم بشغف وحبّ واندفاع.
وللآن، لا توجد محاولات جادة من المؤسسة الثقافية الرسمية أو التقليدية، لتفعيل المشاركة الثقافية كأداة للإدماج الاجتماعي، بحيث تتحوّل إلى بؤرة في المجتمع الديموقراطي النابض بالحياة التي تشجع على قيم الحرية والعدالة وتكافؤ الفرص.
توسيع الأنشطة الثقافية
وماذا عن الأنشطة الثقافية خارج المدن؟ وهل هناك من قام بتوسيع البنية التحتية الثقافية خارج المراكز الحضرية، بما في ذلك المناطق الريفية أو ما يسمونها الأطراف والمناطق الخارجية؟ هل فكّر أحد بهذه المجتمعات النائية في القرى والجبال والصحارى؟ أليسوا أفرادًا في المجتمع الذي يعتبر المثقفون مسؤولين أخلاقيا عنه؟ أين أنشطة المسارح والسينمات والمكتبات المتنقلة التي ظهرت في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين؟ ما وضع محال بيع الكتب في تلك المناطق؟ ما مدى مشاركة الناس فيها؟
إن مهمة الوصول إلى الناس، على عاتق المثقفين بالدرجة الأولى. فيمكن للمؤسسات الوطنية القيام ببعض المبادرات المتفرقة كالكتاب للجميع.. المتاحف للجميع.. وغيرهما، إلا أن زراعة الثقافة هي مسؤولية المثقف ولا تتحمّلها الحكومات التي يبرز دورها في استخدام الأماكن العامة كمصلحة عامة تسمح للثقافة بالازدهار – على سبيل المثال، من خلال الأعمال الفنية العامة أو مسرح الشارع أو الكرنفالات والمهرجانات الشعبية – ولكن أيضا لتعزيز التفاعل الاجتماعي، وفتح المساحات للحوار والتعرف على ثقافة الآخرين.
ولسوء الحظ، يعيش حوالي مليار شخص في الكوكب بمستوطنات عشوائية تفتقر عادةً إلى الخدمات الأساسية، فضلاً عن المساحات المفتوحة العامة القريبة التي تسمح بالممارسة الثقافية الفعالة وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي التي تؤدي إلى التماسك الاجتماعي وتعزيز الحريات العامة التي تعتبر الثقافة هي الوسيلة الرئيسية بلا منازع لتكريسها وعدم ترك أي شخص يتخلف عن الركب.
القبس الثقافي | 8 يونيو 2024م