بقلم وعدسة: زياد جيوسي
في أمسية جميلة وبدعوة من منتدى البيت الثقافي العربي في عمَّان عاصمة الأردن الجميل، وبتنسيق الأستاذة ميرنا حتقوة منسقة الانشطة في المنتدى كانت يافا حاضرة المدن الفلسطينية حاضرة بقوة في الرواية الفلسطينية، أمسية حوارية ابتعدت عن التقليدي والقراءة السردية، وفي حوار مفتوح أجراه الكاتب والناقد الأستاذ عبد الرحيم جداية واستضاف فيه الكاتبة السيدة أسماء ناصر أبو عياش التي حضرت من رام الله فلسطين خصيصا للندوة، والكاتب الروائي بكر السباتين، كان حضور يافا في الحوار المفتوح، فيافا التي تألقت في رواية الروائية والباحثة أسماء وروايتها يافا أم الغريب كانت حاضرة من خلال ذاكرة شخوص الرواية، وفي رواية بكر السباتين حضرت يافا بقوة من خلال روايته صخرة نورميندا، وخلال مداخلتين قدمهما كل من النقاد أحمد الغماز وأحمد دحبور، أخذت الأمسية مناحي جميلة أخرى.
اذكر حين بدأت بقراءة كتاب يافا أم الغريب قبل سنوات حين صدوره والحنين يشدني إلى يافا، كنت أظن أن الكتاب بحث تاريخي شفوي جامد، فهو قد نال جائزة العودة في التاريخ الشفوي عام 2008، ولكن ما أن بدأت القراءة ومن الكلمات الأولى حتى وجدت نفسي أحلق في عالم آخر، عالم يافا والوطن المستلب منا.
(يا لهذي اليافا.. لقد فعلت فعلها بعشاقها فتوحدوا معها فسكنتهم ولو على شكل صورة تناقلتها أيديهم ونقلتها وديعة لأيدي الأبناء والأحفاد).. هكذا همست الكاتبة أسماء ناصر أبو عياش، ابنة عائلة ناصر اليافية الأصيلة وهي تروي حكاية يافا على أسنة عشاقها الذين عرفوها قبل النكبة.
ما كتبته أسماء ليس مجرد بحث في التاريخ الشفوي ليافا، بل هو نزف روحي وقلبي نزفته من قلبها وروحها ورسمته بدمعات الحنين حتى أصبح البحث رواية تروي الحكاية، فكانت كما قال د. أكرم البرغوثي: (هنا لا تكتب لا ترسم لا تستشهد بالصور إلا لتبقي ملامحها الذاتية حية ببرتقال يافا وبحر حيفا.. وتشرك هنا من الشواهد مجموعاً تسكنه يافا بأحيائها وبيوتها وبحرها وكل ملامحها..).
ما بين تداعيات التجربة الشخصية في بيروت إثر حصار 1982، والشتات مرة أخرى من بيروت إلى الشام فالأردن فتونس قبل العودة للوطن، ومابين ذاكرة من عرفوا يافا وعاشوا بها، جالت بنا أسماء ونقلت لنا بأسلوب أدبي مدهش (الصدمة التي اعترت عقول محدّثيَّي حينما عادوا إلى بيوتهم غرباء وقد حل بها الأعداء!)، فتهمس لنا من أعماق روحها: إنها يافا أم الغريب..
يافا أم الغريب هي حكاية أسماء وحكاية والدها وحكاية الشاعرة شهلا كيالي والفنانة تمام الأكحل ومثال القمبرجي ود. الفرد طوباسي وأنور السقا وسامي أبو عجوة، وحكايتنا جميعا من لم نعرف يافا ولكنها سكنتنا، فأعادت أسماء لذاكرتي الحنون جدي لأمي، حين أوصاني وأنا في المعتقل عام 1978 هامسا لي من خلف قضبان الزيارة: يا جدي إن رأيت يوما يافا فاقرأ على روحي الفاتحة على شاطئ العجمي، ورحل بعدها من عالمنا، وحين تمكنت من زيارة يافا مع أحد أصدقائي بمرور سريع لأني كنت لا أحمل تصريحا للزيارة، نفذت رغبة جدي ومسحت وجهي بمياه البحر هناك.. ولم أرى يافا بعدها، فزرعت أسماء كل مشاهد يافا من جديد في ذاكرتي وجددت الحلم. وحين عدت الى يافا مرة أخرى بعد 19 عام، بقيت يوما كاملا اوثق بعدستي كل الأبنية التراثية والحواري والأحياء والأزقة وجددت قراءة الفاتحة على روح جدي على شاطئ العجمي.
هي يافا كانت وستبقى وستعود ذات يوم، وأما أنا فسأهمس مع روح الشهيد محمود الأفغاني:
يافا ترى يوما أراك بأعيني/ أم يا ترى ألقاكِ بعد حِمامي/ فلعلني بعد الممات أزورها/ فيطيب فيها مرقدي ومقامي.
شكرا أسماء على إنثيال الذاكرة وتوثيقها، ولكل من عشق يافا أهمس: عليكم بكتاب يافا أم الغريب.. ففيه ستجددون حكاية العشق.
وأما رواية صخرة نورميندا فأكتفي بما قاله الكاتب بكر السباتين عن روايته حين قال: (ومن هذه الأساطير المرتبطة بمدينة يافا أسطورة جميلة تتحدث عن الأميرة اليافيّة أندروميدا (نورميندا) التي ترمز إلى الشجاعة والتضحية في سبيل ما هو أغلى، الكرامة المتمثلة بالأوطان، فما قصة هذه الأميرة؟
آندروميدا (نورميندا) هي أسطورة يونانية قديمة ,اتخذت مسارين في روايتها، الأول أن الملك كان أثيوبياً بينما ذهب المسار الآخر (وهو المرجح) إلى أنه ملك يافا، إذ تحكي الأسطورة أن الملك كوبيوس وزوجته كاسيوبيا ليس لديهما سوى ابنة وحيدة فاتنة الجمال تدعى (اندروميدا) أو – نيرموندا كما يلفظها أهل يافا قبل نكبة فلسطين- وكانت (كاسيوبيا) كأي أم تتفاخر وتتباهى دوما بجمال وسحر ابنتها الوحيدة إلى درجة شبهتها بالآلهة لفتنتها الطاغية.
حتى جاء اليوم الذى نسيت فيه الملكة المغرورة (كاسيوبيا) قواعد الاحترام والتبجيل اللائقة للآلهة، وراحت تذيع بين الرعية ما أثار غضب الآلهة مدعية بأن (نيرموندا) اجمل بكثير من حوريات البحر، فكيف يحدث هذا الأمر وقد تجرأت على بنات الاله (نيريوس)، ولم يسكت (نيريوس) على هذه الاهانة الموجهة له من واحدة من أهل الارض ايا كان شأنها، وتوجه فورا الى بوسيدون اله البحر ليساعده على الثأر ويرد له اعتباره وينتقم له من (كاسيوبيا) المغرورة وزوجها وابنتهما .
فما كان من بوسيدون الا ان ارسل تنينا عظيما يدعى (الكراكون) الى شواطىء المدينة التى يحكمها (كوبيوس) واخذ التنين يهاجم الاهالى ويثير ذعرهم ويقلق المدينة كلها وكان غضب بوسيدون مخيفا.
فلقد امر (بوسيدون) بتقديم اندروميدا (نيرموندا) الجميلة الى التنين كقربان والا لن يبتعد عن مدينتهم وسيظل يؤرق منامهم ويرعبهم وبالطبع لم يكن هناك مفرا من ارضاء التنين ليرحل , لذا فقد ربط (كوبيوس) ملك اثيوبيا ابنته الوحيدة اندروميدا الى صخرة على شاطىء البحر ووقفت المدينة بأسرها تنتظر ظهور التنين لينقض على فريسته ويلتهمها.
فسمع بقصتها حبيبها البطل (بيرسيوس) الذي باغت الجميع وهو يمتطي صهوة الحصان المجنح بيجاسوس آتيا نحوها لينقذها وكان بيرسيوس قد خرج فى مغامرة كعادة الابطال الاغريق فكان بيرسيوس ما يزال يرتدي حذائي هيرمِس اللذين استخدمهما في مهمّة قطع رأس ميدوسا. فقد واجه (ميدوسا) الشنيعة التى تحيل نظراتها اى شىء الى حجر جامد وقتلها واتى برأسها معه على حصانه الطائر وفور ظهور الوحش وقف بيرسيوس ليحول بينه وبين اندروميدا (نيرموندا) وبيده رأس ميدوسا وقد رفعها فى وجه التنين فتحول التنين الى حجر وتحطم ونجت اندروميدا (نيرموندا) وفك بيرسيوس السلاسل التى قيدتها وعادا معا ليتزوجا، وقد قدم بيرسيوس رأس ميدوسا الى بوسيدون لارضائه وليعفو عن اندروميدا وقبل بوسيدون تلك الهدية وعفا عن مدينة يافا، وتزوّجا حيث أنجبا في ما بعد ستّة أطفال.وبعد وفاتها وضعت إلهة أثينا صورة أندروميدا أو نيرموندا (المرأة المسلسلة) بين النجوم في السماء الشمالية بالقرب من فرساوس وكاسيوبيا كمكافأة لحفظها وعد والديها وتسمية مجرة كاملة باسمها.
ومن الطبيعي ما دام الحديث كان يجري في زمن الكنعانيين أن تكون الأميرة نورميندا ذات جذور كنعانية، أو أن الشعراء اليونانيين التقطوا هذه الحكاية من ألسنة الكنعانيين سكان المدينة الأصليين، على اعتبار أن التناص بين الحضارات في المثيلوجيا وارد في كل الأزمان).
بكر السباتين الذي جعلنا ندور أحياء يافا وشوارعها وأسواقها وحاراتها من خلال روايته تألق كثيرا، كان يتكلم وأنا استعيد تجوالي في يافا وأهمس لنفسي: ترى ما حجم الألم والاشتياق في روح من يستمع الآن ولم يرى يافا بعينيه؟
______________________________
“عمَّان 12/5/2018”