المقالة

عيون التاباويات الحزينة

عن المصدر (وال)

في مرزق “عاصمة الجنوب الليبي” لعقود طويلة واحد عواصم تجارة الترانزت قديما وغير بعيد عن قلعتها المهيبة وغير بعيد ايضا عن قوس حديث كتب عليه “ساحة الحرية” ومركز بوليس وبعض المتاجر الصغيرة وعند مدخل مسجدها العتيق حيث يرقد حاكم تركي ظريف كتب على قبره ” اه من الموت ” .

 التركي الظريف لابد انه لم يكن ظريفا وهو يحكم مرزق فقد كان يسكن القلعة التي تراقب مداخل المدينة من كل الجهات وتتربص بكل من في داخلها من السكان.

كنت قد دخلتها في احد ايام تسعينيات القرن الماضي مساء قادما من غات والأكاكوس ورأسي يعج بقوافل الشرق والغرب والشمال والجنوب وحكايات التجار والدعاة والمستكشفين وسلاطين وأمراء حكموها والأقرب الى سمعي وروحي في تلك اللحظات كان “فن المرزكاوي” اعني بصمة مرزق المهمة في تاريخ ليبيا الثقافي ونمو هويتها الجامعة.

كنت مستفزا بالكثير من الكلام عن فن المرزكاوي اذ ذهب البعض الى انه فن “مورسكي” خالص جاء من الاندلس والمغرب لينتشر من مرزق الى بنغازي ثم الى ارجاء ليبيا وكل ذلك يضمر تلك العدمية التي امتاز بها الليبيون وهم يتفحصون مقتنياتهم التاريخية والثقافية ولا يرون ابعد من ” الهنا والآن ” .

ذلك الكلام يفترض ان مرزق وكل ليبيا كانت فارغة وكان انسانها متسمرا لا يمارس اي شي، كانه لم يكن يصطاد ولا يزرع ولا يبيع ولا يشتري ولا يتناسل ولا يتعبد والأهم هنا لم يكن يغني ولا يرقص، ببساطه كان محنطا ينتظر قدوم اولئك المورسكيين كي يعلموه الغناء وربما الحب وحتى التناسل ..

نظرية الليبيين الراسخة لقرون بفراغ هذه الجغرافيا بانتظار الفنيقين والرومان والوندال والعرب ليعمروها ويعلموا انسانها التدين والغناء والرقص والتجارة والزراعة والسباحة وركوب الخيل كان شيئا مقززا بالنسبة لي وبعد تجوالي الطويل في ليبيا اكتشفت انه يعبر عن جهل واستلاب مرضي في الآخر بعيدا عن التثاقف والتفاعل الحضاري بين الشعوب عبر التاريخ .

كانت قوافل التجار القادمة الى مرزق ومنذ قرون بعيدة وقبل سقوط الاندلس تحمل كما ظلت دائما البضائع وايضا الفنون والمعتقدات وكان لا يسمح لتلك القوافل بالدخول الى مرزق الابعد اجراءات وفق اعراف وقوانين سنها حكام وشيوخ مرزق مثل غيرهم من حكام وشيوخ محطات القوافل التي كانت مرزق من اهمها , اثناء تلك الايام والليالي التي تأخذها تلك الاجراءات كان تجار وخدم تلك القوافل يستريحون و ايضا يحتفلون , يغنون ويرقصون , كل قافلة وفنون بلادها مما جعل من محطة ما قبل الدخول تلك ملتقى لفنون وايقاعات الجنوب والشمال والشرق والغرب  وكل ذلك يدخل بسلاسة ويسر الى وجدان مرزق ويمتزج بفنها الخاص, فنها المرزكاوي الاصيل لتعيد مرزق صياغته وفق ايقاعاتها ومقاماتها الخاصة بالضبط كما ستفعل بنغازي بالمرزكاوي فيما بعد .

في مرزق حيث دخلت لأول مرة في حياتي لطيف ليبي اخر لم اكن اعرفه مباشرة من قبل، اقتربت من “التبو” ورأيت في عيونهم تلك الريبة والشك لكوني من الشمال وغريب وربما اجنبي رغم سحنتي التي لا تختلف عن سحنات غالبهم اعني النحالة والسمرة الباهتة وسيقان الاثيوبيين اسلافهم كما وصفهم هيردوت .

كان تبو مرزق متوجسين في تلك الاثناء، يخشون الشمال والحكومة ويخشون التعريب او الترحيل او الزج بهم في صراع ضد ابناء جلدتهم في تشاد، كانوا يشاركون طوارق غات واوباري نفس الهواجس بل ان هواجسهم اكبر من الطوارق .

في ليالي المرزكاوي التي حضرت في مرزق لم يكن للتبو وفنونهم حضور في كل ما غنته فرقة مرزق للفنون الشعبية, كانت فنونهم كفنون الطوارق في غدامس منفية خارج اسوار المدينة, ذلك الغياب لم يكن الا غيابا لفنون البدو الرحل التي ظلت تمثل فنون التبو خاصة , فنون القادرين على العدو السريع كما يقول هيردوت منذ خمسة وعشرين قرنا من وصولي الى مرزق, بالطبع سنجد لو فتشنا بحثا بعض عناصر فنون التبو في فن المرزكاوي الذي صاغته مرزق على مهل شديد لقرون طويلة فلا اشك ابدا في ان تلك العيون,  عيون التاباويات اللامعة  ذكاء  وحزنا ورشاقة الغزلان التي يتنقلن بها بين السوق والكوخ لم تفعل فعلها في فن المرزكاوي الليبي الشامل للصحراء والبحر والريف والمدينة وحتى البادية رغم التجاهل والنكران الذي اظهره غالبية ان لم يكن جميع من درسوا فن المرزكاوي .

فنون ” التبو ” التي تشع من تلك العيون، عيون التاباويات الحزينة والتي ينزفنها نسيجا وغناء ورقصا، تغيب تماما عن فسيفساء فنونا وآدابنا، لنخسر بغيابها الكثير من ملامحنا وتراثنا وهويتنا المهددة بالنسيان والتلاشي.


بوابة الوسط | الخميس 18 أبريل 2024م

مقالات ذات علاقة

نظرة قديمة في النقود الليبية!

أحمد الفيتوري

تاغدا

عبدالحكيم الطويل

المؤتمر: بين الشرعية والتشريع

أحمد معيوف

اترك تعليق