قصة

سفر بلا تذاكر

معاذ يحلم بالفضاء (الصورة: مولدة بالذكاء الاصطناعي)
معاذ يحلم بالفضاء (الصورة: مولدة بالذكاء الاصطناعي)

معاذ فتى فِي السَّادِسَةِ عشر من عمره مَهْوُوس بحبّ الِاطِّلاع والمغامرات العجيبة، كما كان يحبُّ التَّأَمُّل ويمارسه بشكل يومي، يتأمَّل الطَّبيعة الخلابة وما تحتويه من جبال وأودية وعيون جارية، وأنهار وبحار وأشجار مختلفة وحيوانات.

كان يستمتع كثيرًا فِي تأمَّله، ويشعر بِالرَّاحة والسَّعادة.

كان معاذ يَقُصّ على أصدقائه المغامرات الَّتِي يعيشها، ولغرابة مغامراته كانوا يضحكون منه ولا يصدقونه معتبرين كُلّ ما يقول ضربًا من الخيال.

أخبرهم معاذ ذات يوم أَنَّهُ سافر إلَى الْمُحِيطِ، وهناك شاهد تحت الماء في الأعماق نفق واسع وطويل، كَان النفق مظلمًا لا يكاد يرى يده، وبينما هو يسبح فِي منتصف النفق إذ أمسك يده جسم مضيء منعه عن الحركة، نظر معاذ إليه بعين متفحصة خائفا، محاولا معرفته، بعد تَأَمُّلٍ لاحظ شكله بالكامل، كان عبارة عن وجه يشبه وجه القرد، يحيط به شعر أَبيض كثيف وطويل، وَيُغطِّي جسمًا صغيرا به أذرع وأرجل طَوِيلَة مفلطحة، لم يستطع معاذ التَّخَلُّصِ من قبضته إلا بإعطائه الأسماك الَّتي اصطادها، عرف معاذ بعد ذلك أَنَّ هذا الْكائن هو شيخ الْبحر النَّادِر، وأخبرهم أَيْضًا عن رحلته إلى أدغال إفريقيا وما شاهده من عجائب وغرائب، كَالرِّجَال الغجر الَّذِين قابلهم، وهم يَلبسون جلود النُّمور، ويتسلقون الْأشجار الْعالية ثمّ يقفزون على ظهور الْحيوانات الْمَارة بين الْأشجار ويصطادونها بسهولة، رجال آخرين يقومون بتربية الْأفاعي الضَّخْمَة، يضعونها على أكتافهم العارية ويرقصون معها على ضوء النَّارِ وأصوات الْمزامير.

كما شاهد في رحلة جَبَلِيَّة كهوف كثيرة مُغَطَّاة بالطحالب اللامعة، ولاحظ في كهف دخله أن هناك منحدر زلق قاده لأسفل، حيث مكان آخر غاية في الرَّوْعَة والجمال، لقد رأى كهفا كبيرا، يتدلى من سقفه وجدرانه أعمدة الكلس، وعلى الْأَرْضِيَّة أخاديد، يجري فيها الماء إلى فتحه واسعة، حيث تنحدر على صخور الجبل في شكل شَلّال، ثُم يتجمَّع الماء في بحيرة خضراء، تحيط بها شجيرات كثيرة.

مهما وصف معاذ وَقَصّ لأصدقائه يَظَلّ في نظرهم كاذبا، ومصدر تسليتهم كُلَّمَا أرادوا التَّسْلِيَة وَالشُّعُور بِالسَّعَادَة، لَكِن معاذ في الحقيقة كان صَادِقًا، وَكُلّ ما شاهده كان واقعا لا خيالا ، وكان يَتقبل منهم الضَّحِك وَالسُّخْرِيَة منه، ونعته بالكاذب بِكُلّ رحابة صدر وَثقة عالية بِالنَّفْس، فهم أَصدقاؤه الْمُقَرَّبِين وَيُحِبُّهُم، ويعرف مقدار حُبُّهُم الْعميق له، ومهما فعلوا تبقى مكانتهم في الْقلب مرموقة وَمحفوظة. في ليلة صَيْفِيَّةٌ مقمرة، كان النَّسِيم يلاطف سخونة الطَّقْس، ويرسل تَحِيَّتَه المنعشة لعشاق الصَّيْف، كان معاذ مستلقيا على رمال الشاطئ يُتَأَمَّل السَّمَاء الصَّافِيَة والمرصعة بِالنُّجُوم، إذ شعر بجسده أصبح خَفِيفًا ويرتفع كريشة عن مستوى الْأرض، مُتَّجِهًا نحو السَّمَاءِ كما لو كان نائمًا على البساط الطَّائِر، ولم يَتَمَكَّنْ معاذ من التَّحَكُّمِ فِي نفسه والهبوط، كَأَنَّمَا قُوَّة خارقة تحمله وتجبره على الارتفاع، حَتَّى الضَّغْط في الْأعلى لم يمنعه من الِاستمرار في الصُّعُودِ، والجاذبية لم تحاول على الْإطلاق إعاقته وجذبه إليها، يبدو أَنَّ توازنها قد اخْتَلّ، أَو تعْتبر معاذ كائن خارق لعادات الْبشر وما ألفوه.

لم يُصَدَّقْ معاذ ما يحدث له، وَظَنَّ أَنَّهُ في حلم، فرك عينيه عِدَّة مَرَّات مُتَأَكَّدًا من وضعه، كان خائفا ومصدوما من كُلِّ شيء، قال لنفسه:

– أليس غريبا ما يحدث لي؟ إلى أين أذهب؟ النّجْدَة أنا خائف جِدًّا.

صرخ معاذ بِكُلّ قواه لكن لا أحد يسمعه، قاوم كثيرا ارتفاعه بلا فائدة، واستسلم أخيرا للواقع وطار حيث أُريدَ له.

لاحظ معاذ بعد استفاقة من الصَّدْمَة والاستسلام لواقعة أَنَّ هناك هالة من الأشعة البيضاء تحيط به ، وهي من تحميه من السُّقُوطِ وَتعينه على الصعود، لم يدرك معاذ من أين جاءت هذه الهالة؟ لَكِنَّه أَحَسّ ببعض الرَّاحَة. تابع معاذ رحلة الصُّعُود ولا يعرف الْهدف الَّذِي سيصل إليه، وبينما هو كذلك إذا بعينيه تتابعان مسارات رفيعة جِدًّا ترتبط بالهالة الْبيضاء حَتَّى وصولها إلى الْقمر، فقال بتلقائية:

– هي رحله إلى القمر إذن .

شعر معاذ بِالسَّعَادَة وهو يقترب من الْقمر، كان نوره ساطعا لدرجة جعلت حدقتيه تضيقان، شعر بأن القمر امتصه إلى الداخل وأصبح كغلالة فضية تطير فوق قمم صخرية هائلة، تولد في النفس الرهبة مع السواد المطبق على المكان، بدا وقتذاك كقنديل ينير ليل القمر الساكن وتمنى لو يحيل الليل صباحا ويعود لأرضه بسلام، وأثناء تجواله كان يضع يديه على قلبه ويغمض جفنيه بشدة هلعا من تلك القمم الجاثمة بلا رحمة كأنما وحوش فاتحة أفواهها تنتظره، لم يعد يحتمل المزيد من الفزع وصارت دموعه تنهمر ودوار يفقده توازنه، فتح عينيه وانبهر باختفاء قلب القمر وعلم بعد تدقيق أنه نجا وضوء القمر يمتد خلفه، ثم انحرف به المسار ناحية أَجسام ضخمة تسبح في الْفضاء، راوده إحساس بالخوف لضخامتها، وبينما كان يشاهدها عن بعد لاحظ حولها نقاط كثيرة تلمع بأحجام مختلفة وهي تدور في تناسق بديع، وتلك الأجسام الضخمة تدور رغم وزنها الثقيل فكر معاذ فيها مليا، كيف يمكن لها الدوران دونما سقوطها؟ ماذا عن قانون الجاذبية الذي درسه؟ كيف عرفت مساراتها الدورانية ولا يضرب بعضها بعضا؟

وفي غمرة تفكيره تفاجئ بدورانه هو الآخر حول تلك الأجسام، راسما بهالته البيضاء معالم مدارية رقيقة، بدت كدوامات متتالية تدعوه للغوص صوب المجهول، ولا أحد في استطاعته انتشاله منها.

ارتبك معاذ وهو يلف في دوامته حينما لمح أجساما مشعة تسرع نحوه كالوميض، مخترقة كل الحواجز قاضية عليه، لحظتها أحس معاذ أنه أصبح عدما، وحياته انتهت في مكان غريب.

كان معاذ يظن أنه قد انتقل إلى عالم الأموات نتيجة الانفجار لكنه سقط في مكان عجيب، وعندما استفاق من إغماءاته أحس بنفسه نائم على فوهة بركان، نهض مسرعا رغم الوهن والإنهاك الذي يعتريه يبحث عن سطح بارد، وفوجئ بأن كل الأمكنة التي يفر إليها لاجئا كسابقتها في السخونة والاشتعال، الألم واحتراق جسده الذي بات كجسد شاة مسلوخة جعله يركض كالمجنون في كل اتجاه، مخترقا غلالات الوهج الشديد الذي لم يمكنه من فتح عينيه، حتى وقع مشلول التفكير والحركة، سائلا نفسه:

   – هل ستكون نهايتي هنا؟

حتى الهالة لم تمنع عنه السخونة، وراح يتململ صارخا كعصفور يتلذذ الأطفال بتعذيبه.

عرف أنه لا خلاص من واقعه إلا بالهروب لخياله الباطني، والعيش مع أطيافه الطفولية، ورؤية أحلامًا جميلة تنسيه ما هو فيه من ألم وحروق وتسلخات حَتما ستفقده الْوَعْي.

فيما كان معاذ يتوجع وهو مغمض العينين وعقله الباطن غارقا فِي أَمانيه وأحلامه، إذ أَحَسّ بجسده فجأة يرتعش وينكمش متكورا كسلحفاة داخل قوقعتها، في البداية لم يستوعب معاذ ما جرى، وعندما فتح عينيه ببطء مخافة الْوهج لَكِنَّه فوجئ بِالظّلَام الدامس الَّذِي لا يرى فِيهِ حَتَّى أصابعه، والأجواء باردة كما لو كان محشورا فِي قوالب ثَلْجِيَّةٌ، أو يعيش في الْقطب الْمُتَجَمِّد، كانت أسنانه تَصْطَكُّ وعظامه تنفصل عن بعضها من شِدَّةِ ارتعاده، لم يعد يشعر بوجوده، أصبح ككومة عظام ملقاة تضربها الرِّيَاح القارصة، تَفَجَّر معاذ صَارِخًا في غمرة ارتعاشة:

– يا إلهي ما هذا الطَّقْس الْعجيب؟ أريد الْخروج من هنا أرجوكم ساعدوني.

كان صدى صوته يَتَرَدَّد مع الرِّيَاحِ ثُمّ يسمعه يَتَجزأ وينتهي بارتعاشات دقيقة، وَظِلّ يتابع تَرَدَّد الصَّوت حَتَّى صار خارج حدود الْبرودة.

أحَسّ معاذ أَنَّهُ فِي كابوس مخيف لا يعلم كَيْفِيَّة التَّخَلُّصِ منه، وَكُلَّمَا ظَنَّ أَنَّ المخرج قريب وجدها تتعقد أكثر، ها هو يجد نفسه على أرض حمراء، خُيِّلَ إليه أَنَّهَا ساحة معركة تَشَبَّعْت بِالدِّمَاء، وبدأ يجري في كُلِّ ناحية هاربًا منْ أشباح الموتى المطاردة له حتَّى تعب وسقط مغمى عليه، وليجد نفسه بعد ذلك سابحا في عالم مجهول بين أَجسام مشعة عملاقة، تسبح فِي مسارات خَاصَّة وَرغم كثرتها لا تتصادم، وإذا اقترب مِنْ إحداها شعر بقوته تخور، وتنفسه يختنق في رئتيه، كَأَنَّمَا مغناطيسا يسحب طاقته، وفجأة أصبح معزولًا عن هالته البيضاء وهوى يسقط على رمل الشَّاطِئ مُتَوَجِّعًا، وَأَحَسّ بجسمه مُحَطَّمًا لا يقوى على السَّيْرِ.

عندما قَصّ معاذ لأصحابه عن رحلته الغريبة ضحكوا منه كالعادة واتهموه بالتوهم والجنون، لكن معاذ كان واثقا من كلامه وقال لهم في تبسم:

– أعلم أنكم لن تكفوا عن اتهامي بالكذب والتوهم، حقا لقد سافرت إلى الفضاء ولي أدلة تثبت صدق مقالي.

حملق الأصدقاء في معاذ والدهشة تلجم أفواههم الفاغرة، وهو يخلع قميصه ويشير إلى تسلخ في جسمه:

– هل رأيتم دليل براءتي الآن حتى تدركوا مدى صدقي الشفاف؟ إياكم واتهامي مجددا بما لا تعلمون.

شعر معاذ بالنصر في انتصافه لنفسه وهو ينظر لأصحابه المصابين بالشلل في ألسنتهم ولم يستطيعوا مجادلته بعد إبراز برهانه القاطع، لقد أفحمهم به ولن يتمكنوا من التطاول عليه مرة أخرى.

أما الأصدقاء فكانوا منطلقين في ضحك طويل وهم ممسكين على بطونهم خشية تفجرها، وأشداقهم تكاد تتمزق من الضحك عندما لمحوا تسلخاته، قال أحدهم وسط ضحكه:

   – لا تصدق نفسك يا ولد.. يومين وأنت نائم على الشاطئ وتقول أنك سافرت إلى الفضاء.. يبدو أن حرارة الشمس أثرت على عقلك مثلما فعلت بجلدك العاري.. أما تكسر عظامك فذلك نتيجة صراعك مع الأمواج.

احمر وجه معاذ المبتسم ولاذ بالصمت.

مقالات ذات علاقة

هروب 2

رشاد علوه

مـا وراء الحـب

محمد العريشية

حَرِيْص

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق