المقالة

بين الوهم والمأزق: هل سدّ “الكبار” الطريق على الشباب؟

من أعمال التشكيلي الليبي .. علي العباني
من أعمال التشكيلي الليبي .. علي العباني

نُشر مؤخرًا على موقع “بلد الطيوب“، بتاريخ 11 أبريل 2025، مقال للكاتب والباحث السيد توفيق الشقروني بعنوان “نداء إلى الشباب لتجديد المشهد الثقافي“، حمل فيه رؤية ناقدة لحضور جيل الأدباء الكبار في المشهد الليبي، واتهمهم بشكل غير مباشر بكونهم حُرّاسًا على بوابة الثقافة يعيقون دخول الشباب.

والجدير بالذكر أن موقع “بلد الطيوب” هو مبادرة ثقافية خاصة أطلقها الكاتب رامز النويصيري، ومنذ بداياته كان مصممًا على أن يؤسس منصة تضم كل ما يخص المشهد الثقافي الليبي، دون تمويل من أي جهة، مع الإصرار على الاستمرارية رغم التحديات.

في كل مرة يُفتح فيها نقاش حول حال الثقافة في ليبيا، تُطرح فرضية باتت أقرب إلى المسلَّمة، وهي أن “جيل الكبار” ما يزال مهيمنًا على المشهد الثقافي، يُمسك بمفاتيح الجوائز والمنابر والعلاقات، ويحول دون صعود الأجيال الجديدة. وقد كتب الباحث توفيق الشقروني مؤخرًا مقالة بعنوان “نداء إلى الشباب لتجديد المشهد الثقافي” في موقع بلد الطيوب، حملت هذه الرؤية بشكل مباشر، بل اتخذت من هذا الاتهام نقطة انطلاق لكل ما يعانيه المشهد الثقافي من ركود، متهمًا الأدباء الكبار بأنهم تحولوا إلى “حُرّاس بوابة” يمنعون الشباب من الدخول إلى دائرة الضوء.

هذا الطرح، رغم أنه لا يخلو من حماسة شبابية مشروعة، إلا أنه يقوم على اختزال كبير، ويتجاهل حقائق مهمة على أرض الواقع، بل ويُسقط على الحالة الليبية نموذجًا لا ينطبق عليها.

أولًا، لا بد من القول إن المشهد الثقافي الليبي لم يعرف يومًا هذا النوع من السلطة الأدبية المتسلطة التي تتحكم في المشهد وتقصي من تشاء. على العكس تمامًا، جيل الرواد في ليبيا – من الشعراء والروائيين والنقاد – لم يكن يومًا جزءًا من مؤسسة حقيقية ترعاهم أو تُمكّنهم من فرض شروطهم. لقد ناضلوا وحدهم، ونشروا كتبهم على نفقتهم الخاصة، وشاركوا في محافل ثقافية عربية بجهود شخصية، وغالبًا دون أي دعم من الدولة أو المؤسسات الرسمية.

ثانيًا، ما يسميه الشقروني بـ”الحُرّاس” هم ببساطة كتّاب وكتابات أثبتت حضورها، وتمكنت من صناعة اسمها بمرور الزمن، لا بسلطة ولا بإقصاء، بل بالعمل والاجتهاد. فهل من غير المنطقي أن تبقى هذه الأسماء حاضرة طالما أن منجزها لا يزال فاعلًا ومؤثرًا؟ وهل المطلوب من الأجيال السابقة أن تنسحب من المشهد كي يشعر الجيل الجديد بأنه قد بدأ؟

ثالثًا، يتجاهل هذا الطرح حقيقة أن من سبقونا لم يقفوا أبدًا في وجه الشباب، بل العكس تمامًا. كثير من الكتّاب الشباب اليوم تلقوا دعمًا وتشجيعًا من أجيال سبقتهم، عبر التقديم، والمراجعة، والتوصية، والمشاركة في الأنشطة الثقافية. بل إن كثيرًا من أولئك الذين يُنعتون اليوم بـ”الكبار” ساهموا – وما زالوا – في فتح الأبواب أمام من يأتون بعدهم، ولو لم يفعلوا، لما وُجد في الساحة اليوم كُتّاب شباب أصلًا.

رابعًا، لا يمكن القفز على سؤال مهم: ماذا قدّم الجيل الجديد للمشهد الثقافي حتى الآن؟ من حق الشباب أن يُطالبوا بالفرص، لكن من واجبهم أيضًا أن يبادروا بالفعل الثقافي. أن لا ينتظروا دعوات التكريم والمؤتمرات، بل أن يصنعوا مشاريعهم، أن يؤسسوا منابرهم، ويبتكروا طرقهم للوصول، كما فعل من سبقهم في ظروف كانت أكثر تعقيدًا.

لقد نشأنا نحن – جيل الثمانينات والتسعينات – على ثقافة المبادرة. كنا نقدم مقترحات ثقافية، ننظّم أمسيات، نقيم مهرجانات صغيرة من مواردنا الخاصة، ونبني حضورنا في الفضاء الثقافي بجهد يومي. لم نكن نملك منصات، لكننا خلقنا دوائر ثقافية بالاجتهاد والتواصل. لم ننتظر من الدولة أو من اتحاد الكتّاب أن يمنّ علينا بالاعتراف، بل سعينا لنفرض وجودنا بمنجز يستحق.

الخلل الحقيقي ليس في وجود أسماء كبيرة في المشهد، بل في غياب مؤسسة ثقافية تتبنّى وتُدير الحياة الأدبية في ليبيا. لا توجد لدينا وزارة ثقافة فاعلة، ولا توجد مهرجانات عربية تنطلق من طرابلس أو بنغازي أو مصراتة تستضيف كتّابًا عربًا. وبالتالي لا توجد شبكة علاقات تبادلية تجعل من الكاتب الليبي جزءًا من الحراك الثقافي العربي. الكاتب الليبي ما يزال يجاهد بنفسه، يُرسل كتبه على نفقته الخاصة، يتواصل مع النقاد والإعلاميين بمجهوده الفردي، وفي النهاية يحق للبعض أن يُنكر عليه حضوره، لأنه ببساطة لا يظهر كفاية.

والمؤلم أكثر أن بعض الأصوات الشابة بدأت تُطالب بتكريمها قبل أن تقدم منجزًا يُذكر، وكأن التكريم صار حقًا مكتسبًا لمجرد الكتابة أو النشر. وهنا نلمس ثقافة ريعية جديدة، تُشبه إلى حد بعيد ثقافة الاستجداء: أن ينتظر الكاتب الشاب أن تُفتح له الأبواب بلا اجتهاد، وأن تُحتفى به المؤسسات قبل أن يُنتج شيئًا يستحق الاحتفاء.

هذا لا يعني أن الشباب لا يُبدعون. على العكس، هناك تجارب شبابية لافتة، وهناك أصوات تنضج بسرعة وتستحق الدعم والتوجيه. لكن المشكلة تكمن في الخطاب الذي يُحمّل الأجيال السابقة كل أسباب الفشل، ويُقدّم صورة مزيفة عن “هيمنة” لا وجود لها.

التجديد في الثقافة لا يأتي بإزاحة من سبق، بل بالعمل جنبًا إلى جنب، بمشاريع حقيقية، لا بخطابات حماسية أو اتهامات جاهزة. الإرث الثقافي ليس سجنًا كما يظن البعض، بل قاعدة يمكن البناء عليها، وتجاوزها حين يكون هناك ما هو أعمق وأجمل.

أخيرًا، أقول لكل شاب يشعر بأنه مهمّش: الطريق لم يكن سهلًا لأحد. لا تنتظر من أحد أن يصنع لك مجدك. اكتب، وانشر، وشارك، وابنِ صداقات حقيقية مع القرّاء والكتّاب. وإذا وجدت بابًا مغلقًا، لا تقف أمامه كثيرًا. ابحث عن نافذة، أو افتح لك طريقًا جديدًا.

المشهد الثقافي لا يحتاج لمن يهدم، بل لمن يبني. وما نبنيه اليوم – سويًا – هو ما سيبقى غدًا، لا للنداءات، ولا الاتهامات.

مقالات ذات علاقة

كيف رسم الشيخ القطعاني خريطة إسلام الحب والجمال

المشرف العام

الحوار .. وامتلاك الحقيقة

المشرف العام

لا يوجد صراع بين الدين والعلم

علي بوخريص

اترك تعليق