«كلمات الحكماء تُسمع في الهدوء، أكثر من صراخ المتسلّط بين الجهّال» سفر الجامعة (17:9)
4 ـ برومثيوس الخلاص
يحترف أمين مازن النقد بوحيٍ من وعيٍ مبكّرٍ بحقيقة النقد، كموقفٍ فلسفيٍّ من الوجود، لتحقيق رؤية تنويرية، قادرة على تغيير واقعٍ اجتماعي، حديث العهد باغترابٍ تاريخي استعماري، تراكمت فيه طبقات الجهل عبر القرون، ليعاني الحرمان من أبسط أبجديات التعليم، ليخوض، بفضل الإستقلال، حرباً مصيريّة مع هذا العدوّ (الجهل)، لا حرباً مترجمةً في حرف الصراع الطبقي، كما تتبنّى الأيديولوجيات الدخيلة، التي كانت تقليعة المرحلة مطلع خمسينيات القرن الفاني. أي أنه النقد بالمفهوم الكانطي، الذي لا يكتفي بالتشكيك في المسلَّمات، ولكنه يعتنق دين التفكيك: تفكيك ألغام الجهالة التاريخية، المعتمدة في مجتمعٍ تقليدي، مهووسٍ بتركةِ أسلافٍ، هي في يقينه، قدسُ أقداس، المساسُ بها بمثابة تجديف في حقّ ربّ الأسلاف، لا في حقّ الأسلاف. وهو ما يعني أن الرسالة النقدية تكتسب ماهيّةً مركّبة، فلا تكتفي باستطلاع أسباب المحنة، ولكنها تستنطق التاريخ، لتستجلي الحقيقة في منافي الأزمنة الاستعمارية، توقاً لاستعادة الذاكرة الوطنية الجريحة، في ممارسةٍ بطوليةٍ لدور عالم الحفريات الأثرية، في سعيه لاكتشاف اللُّقية، التي لن تكون هنا سوى القيمة في التجربة الكينونية، في بُعدها الوطني، لأن الناقد، منذ الآن، هو محترف حفريّات، لغرض استخراج كنوز الروح، التي سفّهتها الهيمنة الاستعمارية، فاغتنمتها قيعان اللاوعي. أي أنه ذلك الوصيّ، القابع وراء الحجاب، ليمارس دور الرقيب الغيبي الذي لا يكتفي بممارسة الرقابة على مهزلتنا الدنيوية من هذا الموقع، ولكنه يرسم لنا خرائط الخلاص، في موقفه كمشاهد، لأن الأقدار هي التي قضت لأمثاله بدور القاضي، الذي يملك الحقّ باستصدار حكمٍ في حقّ المسرحية، لأنه، كشاهد عيان، وحده المستوعب لدرس المسرحية!
فالوقفة في الرباط، في الزاوية، حضورٌ خارج السياق، خارج واقعٍ موبوءٍ بباطل الأباطيل، لأن الصلاة في محراب الرباط خلوة مع تُرجُمان الملكوت، وهو الضمير، لمحاسبة نفسٍ أمّارةٍ بالسوء، كي لا تمارس خطيئة التثوير، في حمّى هوسها بالتغيير. هذا التثوير الذي أدمنه الهواة كوسيطٍ لاستحضار الأحلام، خذلهم، لأنهم لم يحسنوا قراءة المفهوم الذي تجود به اللغة في مفردة خطرة هي: «الثورة»، استعارةً من إسم حيوانٍ أهوج هو «الثور»، الذي تأبى طبيعته إلّا أن تدمّر كل شيء في طريقه ما أن ينطلق من عقاله؛ حتّى إذا استنطقنا الكلمة بوصفها «فورة» (لأن الثاء المثلّثة هي إبدالٌ من الفاء)، فإن هذه السعلاة لن تتردّد في أن تستعير طبيعة العاطفة، أو العاصفة، التي تطيح بكل شيء، ولكنها لا تحقق الغرض أبداً. والدليل الحاسم تجود به اللاتينية، في مفردة revolution، الدالّة على الردّة، أو الارتداد عن مفهومٍ بريءٍ هو evolution الدالّ على التطوّر!
ولهذا السبب صارت الثورات كلمة الحقّ التي أُريدَ بها باطل. هي كلمة حقّ لأنها فتيلٌ يشتعل لتحقيق عدالة مغتربة في الواقع، ولكنها لا تحقق ما وعدتْ به أبداً، لأنها لا تنوي أن تخون منطق اللغة إكراماً لنا، فأغرقت واقع الأمم بالنزيف الدموي السخيّ، إنتقاماً من خصمٍ سامٍ هو: التطوّر، الذي شئناه لها، ولكنها لم تشأه لنفسها، لأنه ليس من طينتها في منطق اللغة كـ«ردّة». والحكيم وحده يستطيع أن يكتم أنفاس العنف في إغواء التغيير، فيجنّب الواقع دعوات الغوغاء باقتراف إثمٍ لا يُغتفر هو سفك الدمّ إرواءً لظمأ مغامرة طائشة من حبك لعنة الحداثة: الأيديولوجيا!
شاهد العيان من وراء حجاب وحده يستطيع، بفضل حضوره في خلوة الرباط، أن يستنطق في اللغة المنطق، لا الحرف، لأن في المنطق تسكن الروح، التي تُحيي، لا الحرف الذي يُميت، فلا تستدرجه العقلية الأيديولوجيّة كي يمارس الزور في حقّ الحقيقة، فيحرّض على ممارسة التثوير، أملاً في تحقيق تغييرٍ، لم يَرد في معجم التطوير، بل يستنكره منطق التطوير!
فالموقف النقدي في حقّ أي نظام، خيارٌ موجع، لسدَنة كل نظام، لأنه تحريضٌ على الحقيقة على طريقة أبي ذرٍّ الغفاري في الموقف النقدي من عمل خليفةٍ هو عثمان بن عفّان، فلا يملك الأخير إلّا أن يردد في كل مواجهة: «إليك عنّي! إليك عنّي»، تماماً كما اعتاد سدَنة ثلاثة أنظمة أن يردّدوا في وجه الإنسان الذي آلى على نفسه أن يجاهر بالحقيقة، فردّد السدنة في وجهه ذات التميمة، دون أن يدركوا أنهم إنّما يستصدرون في حقّه شهادة براءة، بهذا النداء.
لم يُقبل أمين مازن على السواحل مستجيراً، ولكنه أقبل نذيراً. لم يُقبل من الدواخل تلبيةً لنداء المرسوم الملكي القاضي بوجوب توطين البدو، في واقع وطنٍ تسعون في المائة من سكّانه كانوا مازالوا يتعاطون الهجرة ديناً، ولكنه أقبل من صحراءٍ تتباهى بهوية مسقط رأس تكوين، حاملاً في قلبه ما كان في وجوده رأسمال الإنسان الهجري، وهو: الحرية! ليلقّن جيل ما بعد الاستقلال هذه التعويذة، ليصطدم بالصفوة السياسية، التي لم تكن الحرية في تجربتهم سوى مفردة سحرية لتسويق حُجَجهم في الفوز بالسلطة، في مرحلة مزمومة تاريخ وطنٍ، يشهد ميلاداً عسيراً، بفعل جهالة القرون.
فالحرية في معجم فارس الزمن الضائع، لم تكن تَرفاً من صنع هواة، ولكنها كانت استثماراً لتحريض الجيل على الإيمان بالهوية الوطنية كمفهوم: مفهوم يستطيع أن يبدع روحاً وطنية، برأسمالٍ نفيس، هو تزكية ربوبية، كما معجزة هي: الحبّ، في واقعٍ يتشكّل ككينونة، مشفوعة بأبجديّة أخلاقية، هي: النزاهة، بدل الحرف المُميت، المستخدَم في عرف الأيديولوجيات الطائشة باسم دَنسٍ هو: النّفع! لأن الغاية هي تحديد الموقف من القيمة، باعتناق دين القيمة. وهي النزعة التي نصّبته إماماً في احتراف المَيسرة كتصنيف سياسي الشائع في حقّ كل مَن ارتضى الحقيقة مقاماً، ليستعير ماهية، هي بالمنطق السياسي، لعنة كما هو الحال مع مدمن الموقف النقدي، من واقع مجتمعٍ حضريّ تقليدي، يحتضن تراثاً ميثولوجياً، لعب دور البطولة في تلفيق المفهوم الديني، ذلك أن قيام هذا النموذج بالتشكيك في صواب أي مرسوم، هو، في يقين الأنظمة السياسية، اعتراض. والإعتراض معارضة، والمعارضة عداوة، والعداوة إعلانُ حرب! ممّا يستدعي استصدار صكّ في حقّه بمعاملته كطريد فردوسٍ حضري، المعبّر عنه بمصطلح مبتذل هو «ساقط قيد»!
فهل يضير الضحية أن تُطرَد من مستوطنة الجلّاد، إذا كانت قد اغتنمت، بالنزاهة، قيمةً هي الوطن، لتتحرّر من هوية، هي هاوية، في صيغة مستوطِن، هذا التوطين الذي لن يعني هنا سوى التدجين، توطين الجهل، وتدجين العقل؟ فكيف لا يُستَنزَل القصاص، في حقّ برومثيوس الخلاص؟