مراد بالحاج
دراسات علم الإثنوغرافيا مكلفة مادياََ ومن ناحية الوقت أيضا. فهي تحتاج إلى الانغماس داخل المجتمعات الصغيرة (عرقيا وثقافيا) للوقوف على تجاربها وبالتالي تكوين صورة أو حالة قابلة للوصف واستنتاج الإفرازات كمخرجات تعكس تلك التجارب في بيئة وزمن محددين.
وبالتأكيد لا تتفاعل هذه المجتمعات القروية الصغيرة او حتى الحضرية الأكبر بمنأى عن أنظمتها الاقتصادية والسياسية (بالإضافة إلى أداتها الرئيسية وهي الاجتماعية / الثقافية). لكن إسقاط المنظومة السياسية / الاقتصادية هو الذي يُنتج الخصوصية داخل كل مجتمع قروي كان أو حضري نتيجة التفاوت في مستويات التعليم، الثقافة وباقي أبعاد المشهد التراكمي. ومن أهم نتائج هذه الدراسات هي الوصول إلى التأثير ورد الفعل المضاد له بين هذه المجتمعات والمنظومات المسلطة عليها خلال حقبة زمنية معينة.
الدراسات يمكن أن تتناول جوانب متعددة تفحص هذه العلاقة وما ينتج عنها، لكن في جزئية بسيطة من المشهد الليبي الذي امتد منذ عام 1977 (إعلان سلطة الشعب وظهور الكتاب الأخضر كنظام يرسم ملامح المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي) في ليبيا، إلى عام 2011 حيث انهيار هذه المنظومة وما أفضت إليه من تداعيات مازالت مستمرة إلى وقتنا هذا (عام 2025).
في زاوية ضيقة أخرى من هذا المشهد ظهرت على السطح مصطلحات صاحبت الثورة التي أطاحت بنظام العقيد القذافي، ومنها مصطلح ” المدن المنتصرة والمدن المهزومة “!
في الحقيقة كل المدن مهزومة لأن جميعها كانت تُدين بقوانين المنظومة السابقة (وحتى المتمردة منها في صمت، إداريا لم تسلم من إتباع إجراءاتها من أجل البقاء)، إلا أن بعض المدن مارست الدهاء الاجتماعي وقفزت إلى قارب الثورة بعد قراءة تاريخية / قبلية عميقة مكنتها من السطو على مخازن السلاح والمال وإعادة رسم ملامح واقع جديد تتصدر مراكز قراره وتصادر سلطة سياساته.
وهذا مشهد يعكس الفوارق في الذكاء الاجتماعي / القبلي بين تركيبات الديمغرافية الليبية كلٌ حسب تجاربه وتواجده في المشهد العام عبر التاريخ.
الخلاصة: مازالت الفرصة قائمة لدراسة الإثنوغرافيا الليبية عن طريق تسليط الضوء على بعض مناطق التنوع الإثني، الجهوي والمذهبي لاستنتاج ما أفرزته التجربة السياسية والاقتصادية السابقة وتحديد معالم أبعادها وتداعيات امتدادها على مطلب الاستقرار الذي ينشده عامة الناس دون فهم الحاجة إلى مثل هذه الدراسات ودورها في رسم السياسات وإعادة تأهيل القدرات في مسيرة البحث عن مجتمع قادر على إنتاج دولة.