قراءات

اللغة والسؤال والعذوبة المحكية في شاعرية محمد الدنقلي(*)

الشاعر محمد الدنفلي ومجموعته فيك شي.

(1)

الشاعر الكبير محمد علي الدنقلي أطلق صرخة ميلاده البيولوجي بمدينة زلة سنة 1957، لأبٍ خبر الصحراء وعشق رملها وطقوسها وحياتها التي كثيراً ما ترددت في صدى صوت أشعاره الشعبية، فتعلم الإبن المولود من الوالد موازين الشعر الشعبي وإيقاعاته وأنغامه الموسيقية، كما حبّ الصحراء والانحياز لقيم الحياة النبيلة.

نال شاعرنا محمد الدنقلي سنة 1979 دبلوم المعلمين الخاص من معهد ابن غلبون بمدينة مصراته التي انتقل للعيش فيها مع أسرته الكريمة، وتلك المرحلة شهدت ميلاده الثاني التاهيلي التعليمي والوظيفي، الذي سرعان ما تبعه ميلاده الثالث وهو الإبداعي الفني من خلال إعداده وإخراجه العديد من النصوص المسرحية التي تحصل فيها على عدة جوائز كممثل وكاتب ومخرج ضمن فعاليات النشاط المدرسي، إضافة إلى منشوراته الصحفية في بعض الجرائد والمجلات الوطنية المحلية.

ومن خلال تتبع مسيرته الابداعية بين الكتابة الصحفية والمسرحية والشعرية يبدو أن محمد الدنقلي لم يحل في وطن الشعر باختياره الطوعي أو عبر البوابة الوراثية أو الأسلوب التقليدي، بل محركات عقله المستنير، وبحثه الدؤوب عن إجابات فكرية لأسئلة تتصادم في داخله ورطته في قصيدة الشعر، وجعلته يتعمق فيها ليبتكر لنا مع الصيد الرقيعي وسالم العالم وغيرهما جنساً جديداً في الشعر الشعبي المعروف حالياً بالشعر المحكي، وهو نمط شعري جديد لم تتجاوز تجربته في ليبيا ربع قرن من الزمن، ولكنه أحدث نقلة نوعية في المشهد الإبداعي الشعري ونال جمهوراً كبيرا خلال مدة قصيرة، وبذلك خسر ركح المسرح فناناً مبدعاً وكسب الشعر المحكي صوتاً عذباً رقيقاً هو محمد الدنقلي.

وفي إطار هذا الفضاء الشعري التعبيري المحكي، ظل شاعرنا محمد الدنقلي مهووساً بالسؤال ومسكوناً بعشق صور الجمال المختلفة التي تترأى له في الحياة، فتتمثل أمامه في الوطن والمرأة والوردة والبحر والكأس والصحراء والترحال والسفر ووجوه الطيبين، ومن ثم صار يغترف من كل تلك المشاهدات الحياتية، ويتفاعل معها وجدانياً وفكرياً، ويضيف إليها الكثير من العذوبة، سواء على صعيد المفردة اللغوية المتراقصة بكل دلالاتها الحزينة المؤلمة أو البهيجة السارة، أو الصورة التعبيرية الرقيقة بكل أركانها الفنية والتقاطاتها الواقعية والتخيلية التي يسبغها عليها من قاموسه اللغوي وفيوض مشاعره ودفقاته الإنسانية، أو مضامين فكره المسكون بالسؤال وتداعياته المختلفة.

ونلمس هذا الاقتراب التأويلي لمسيرة شاعرنا المبدع من خلال مفهوم محمد الدنقلي نفسه للشعر حيث يقول:

(الشعر حالة جلجامشية، أي أنه عمر آخر لا يعترف بالسنين والأعمار والعقود. فأنا أكتب الشعر إحتفاءً بالحياة ..ومحاولةً لاستمراريتها ..كالطفولة التي تسكنُ قلبي ..وفي هذا الجانب أنا لا أعترف بالسنينِ القادمِ عليها، بل أرنو إلى القصيدةِ التي لم أكتبها بعد.)

وهكذا من خلال هذا الاعتراف يتبين لنا أن مفهومه الستيني العميق للشعر هو المحرك المتواصل والدائم لكتابة قصيدة لم يكتبها بعد، ولذلك نكتشف أن غاياته من كتابة الشعر لم تتحقق في “أبصر كيف” و”توحشتك” و”نثار الليل” وهي دواوينه الثلاثة السابقة، فسعى للبحث عنها في ديوانه الرابع المحتفى به اليوم وهو “فيك شي” والذي كان قد صدر في شهر أبريل الماضي عن دار الأيام للطباعة والنشر والتوزيع، وبقدر سرورنا بهذا الإصدار الجديد الذي نباركه، إلا أنه سيكون من فرط سعادتنا ألا يحقق الشاعر الكبير مفهومه من كتابة الشعر في هذا الديوان أيضاً، لأنه بذلك يجعلنا نترقب ونتطلع لإصداره ديوان خامس وسادس وسابع وغيرهم.

(2)

منذ ديوانه (أبصر كيف) هزني ذاك القلق المتعاظم في أعماق الشاعر وهو ينقل لنا حيرته الفكرية قائلاً:

(نريد لوغة .. بلا لوغة .. بلا باء .. بلا أليف

تجي هكي .. بلا صوت وصدى

بلا مانيش عارف كيف !!

نريد لوغة تونسني .. تشاكسني

ونحملها كما “سيزيف”)

ففي هذه الصورة التعبيرية المفعمة بالعذوبة اللفظية والموسيقى الإيقاعية والجماليات الحسية، لا يدعي الشاعر معرفة ما يريد، ولكن تسكنه لهفة الحياة، وتغمره لذة البحث، واعترافه الصريح بحاجته للدفء والاطمئنان والمؤانسة والمشاكسة كذلك. وحتى لا يوسم الشعر المحكي بضيق أفقه، وسطحية نصوصه واقتصارها على المحلية فقط، نجد شاعرنا الكبير هنا يُضمِّن نصه شخصية “سيزيف” بطلة الميثولوجيا الإغريقية، التي حكم عليه بالعيش حياةً أبديةً قاسية. ومن جماليات هذه الصورة أيضاً أنها استعارت من استحضار هذه الشخصية الاغريقية جانب الديمومة والاستمرارية التي يتيحها توفر اللغة التي يبحث عنها شاعرنا، وليس عبثية الحياة وتكدر المعيشة ومعاناتها الإنسانية التي جسدتها شخصية “سيزيف” أبدياً في تلك الأسطورة التاريخية.

لعل في بواكيره الشعرية كان اهتمام شاعرنا بالبحث عن اللغة، وهي كما نعرف وسيلة وأداة للتواصل، سواء مع الذات أو الآخر الإنساني خاصة والمادي عامة، للتحاور والتأمل والتدبر والتفكر والبوح، الذي تطور فيما بعد ليطال مناحي عديدة من حياتنا، ولتظل هواجس بحثه عن إجابات لأسئلته الفكرية العديدة هي بذور الإلهام التي استنطقت روح الإبداع في أعماق محمد الدنقلي، وحركت عقله، ووجهت مداراته صوب فضاءات متنوعة سابقة، إلا أنه كما يبدو، وجد في انطلاقته الشعرية كيانه الروحي، وصوته التعبيري الممزوج بعذاباته، وسبحاته، وفيوض مهجته التي لم يتوانى عن التقاط صورها ونسجها في قصيدة الشعر المحكي التي يطرزها.

وللتأكيد على أن شاعرنا مسكون بالبحث عن اللغة وإجابات الأسئلة العديدة التي تنتصب في قصائده بعلامات استفهام مباشرة، أو إيحاءات رمزية أو إشارات تلميح ذكية، نجده في قصيدته (طرابلس) يعترف بعجزه عن وجود لغة رتبها في تاسع اللغات معتذراً اعتذاره عن ذلك بقوله:

(طرابلس

يا بيت في شعري عصي … مازال ما بى .. ينكتبْ

يا لحن في عودي شجي … قاعد مأجل .. ما انسكبْ

كيف نوصفك .. كيف انتغنى بيك

يا بيتنا … يا راحتي وقت التعب !!

يا طرابلس

طرابلس

يا بيت في شعري اعتذر .. مالقاش لغة تاسعهْ

يا نغم يسري في وتر .. في هالبرور الشاسعهْ

مازال إنتي إنتي

هاي السراايا .. قاعدة

وهاي الغزالة .. والفتاة متواعدة

وهاي المآذن .. والمنارة في السما متصاعدة

هاهم الناس الطيبين يجوك .. من هالمدن القراب

من هالبوادي .. والصحاري .. والقرى المتباعدة

وإنتي كما أنتي)

وحتى وإن لم يظهر السؤال الفكري في مستهل أو وسط المتن الشعري عند شاعرنا محمد الدنقلي فإنه يظل يحتفظ به حتى متأخراً في خاتمة المقطع أو القصيدة مثلما يقول في (توحشتك):

(توحشتك … توحشتك

تُوحّشْتِكْ تُوَحّشْتِكْ .. ونِبِّي نقولها ثاني .

وكُلْ ما قُلتها مَرَّة .. تطفّي حُرقة أحزاني .

وبَعَدْ عَطَّرتها باسْمِكْ .. نِبَتْ نوَّار في لساني .

تُوَحّشْتِكْ .. تُوَحّشْتِكْ .. تُوَحّشْتِكْ..

توحشتكْ خذاني شوق .. جنَّحْ بِيْ بعيد .. بعيد .

وْخَطّمْني علي شاطئ .. مْعَا مِيْدةْ الرّيح .. يْمِيد .

سَرَقْ سمْعي .. غُنَاء بَحَّار .. نسَى رُوحَه ، وتَمْ يْعيد .

يَلا ، لالالْ ، يالالي .. يا شُوق .. الشُّوق .. ليش يزيد ؟)

حقاً لماذا يزيد الشوق كلما أبحرنا في أعماق هذه النصوص الشعرية المحكية الجميلة لشاعرنا الدنقلي؟

إن استعارتنا هنا لذات السؤال من النص الشعري، وإطلاقه في هذه الكتابة المتواضعة، وإنشغال فكرنا به كذلك، لهو كفيل بالتأكيد على قيمة النص الإبداعية التي لا يمكن أن تغادر المتلقي إلا وقد جعلته هائماً فيها، ومنتشياً بها، وملاحقاً لآثار جمالياتها المتعددة.

وعلى غرار المنوال السابق، يزيدنا الشاعر من فيوض روحه وإبداعه لوحةً شعريةً محكية تأثتت أركانها بعدة صنوفٍ وألوانٍ من الجمال التعبيري الرقيق حين يناجي الليل، ويحاوره، ويرجوه ألاّ يرخي سدوله فيقول:

(يا نثار الليل ما تليل

غروب الشمس غرّبني

نبي نصبّح .. نبي نقيّل ,,, ونطفي شوق ذوبني

نخاف نحلم .. ونتخيّل … عبيره كيف لاعبني

ونتصوّر … علي ميّل … وخلي الشعر يكتبني

وأنت صح … كيف الليل

حريري … ملمسه وهمسه

وصحيح وارف … كما النخيل

ظله يسخر بشمسه

ولكن .. خد .. بان جميل

نسيت أنه المساء .. يمسى

قتله يا نثار الليل .. خليني نشوف أمري

يمكن من سنا هالخد

بالك ينطفى جمري … يا نثار الليل)

ومع تطور السؤال الفكري في النص الشعري المحكي عند الدنقلي ازدادت قصيدته تألقاً وبهاءً، وصارت كالعروس الفاتنة التي ترتدي أجمل ما لديها من لباس، وترش أحلى العطور الفوّاحة، وتخضبُ أناملها بخيوطِ الحناء الرقيقة، فتتهادى بكل العذوبة إلى قلب حبيبها الذي يستقبلها ويحضنها بكل جوارحه وحواسه قائلاً:

( فيك شي مش في البشر..
وانتي ما تدري عليه.
نجهل أني نجهله..
ونعرفه. ونحتار فيه
ان دخلتي يسبقك..
وان خرجتي تتركيه..
وان تكلمتي تمنع..
وان سكتي تفضحيه.
اووف يا قصة عيونك..
لما سلمتي عليه..
ولما فضفضتي وحكيتي..
ولما وانتي تودعيه..)

لا شك أنه من الصعب في هذه القراءة القصيرة الاستعجالية البسيطة القبض على كل مكامن جماليات القصيدة الدنقلية المحكية وتسليط الضوء على عناصرها الفنية، وأغراض مضامينها الفكرية، ولكن في كل الأحوال لابد من الإعتراف بأن قصيدة الشعر المحكي التي يعد الشاعر محمد الدنقلي أحد روادها وفرسانها المجيدين قد ازدهرت من خلال نصوصه وإسهاماته الإبداعية، التي جعلت من هذا الجنس الشعري الشعبي الجديد ينال كل الانتباه والاهتمام، ويحظى بالاحترام والتقدير من محبيه، ولكن من الضروري جداً العمل على قراءة مسيرة الشعر المحكي في ليبيا قراءات نقدية متعمقة، بمنهجية موضوعية تفصيلية، تتناول نصوصه وأغراضه وتجارب أصحابها بشكل شامل، وذلك بهدف التطوير الفني، والسعي الحثيث نحو المزيد من التألق والرقي والاستمرارية، وهذا بلا شك يتطلب تظافر جهود المختصين سواء الأكاديميين أو غيرهم من نقاد الشعر المخضرمين، مع الدعاء لهم جميعا بالتوفيق وللشاعر الكبير محمد الدنقلي بالمزيد من التألق في سماء الشعر المحكي الرشيق.

_________________________

(*) ورقة قدمت في حفل توقيع الشاعر محمد الدنقلي لديوانه الرابع (فيك شي) بتاريخ 11 نوفمبر 2017 بمنتدى المناضل بشير السعداوي بطرابلس

مقالات ذات علاقة

تأثير التغير الوظيفي على مورفولوجية مدينة سرت

يونس شعبان الفنادي

“زرايب العبيد” لليبيّة نجوى بن شتوان.. سوق النخاسة العنيف

المشرف العام

الأنا و الآخر في كتابة التاريخ

فريدة المصري

اترك تعليق