أحلام الكميشي
ذات مساء وبينما كانت “الساكتة” عند بئر القرية تتجاذب الحديث مع النساء ريثما تكمل كل منهن عملها بين غسيل وتنظيف وملء للقرب والجرار، فيما ينتشر أطفالهن بالجوار يركضون ويلعبون وكان ضجيجهم وأصواتهم العالية كافيًا لإعلام الرجال والشباب بوجود النسوة قرب البئر فلا يقتربون وهذا عرف جرى اتباعه منذ الأجداد، ولو أنه يتم خرق هذا العرف أحيانًا من قبل عاشق أو راغب في البحث عن زوجة بنفسه وليس عن طريق أهله، وفي هذه الحالة كان عليه أن يحترس من افتضاح أمره فذلك يعني استحالة زواجه من التي غامر لأجلها وخالف الأعراف والعادات وقد يعني أيضًا إجبارها على الزواج من ابن عمها وإن كان ليس كفؤًا لها.
بين تارة وأخرى قد تقطع إحدى النسوة حديثها أو حديث أخرى وهي تأمر طفلها باللعب بهدوء أو عدم الركض والابتعاد وتسلق الأشجار وغيرها، وفجأة خطر للصغير “علي” في غفلة من أمه تسلق البئر واختل توازنه فسقط بداخله، وتكفلت صرخته بشد كل الأنظار صوب البئر وركض الجميع فزعًا من هول الصدمة، ودون تردد قفزت “الساكتة” وراء ولدها بكل جرأة.
واصل الطفل الصراخ وتمكنت الأم من الإمساك به لكن ثيابها تبللت والتصقت بجسدها، ووصل الخبر بسرعة للرجال فاستنفروا لإنقاذ المرأة والطفل، وابتعدت النسوة عن المكان، وظللن تحت الأشجار يرقبن من بعيد، وعلى حافة البئر تقدم أحدهم وخاطبها:
السلام عليكم يا بنت سيدي.. بنمدلك الحبل شديه كويس باش نطلعوك.
لا الله يربحك.. انده لي مولى بيتي والا خوي.. قالت بعد دقائق من الصمت.
ورفضت المرأة الخروج إلا بحضور زوجها أو أخيها “عمّار” اللذان كانا معًا ذلك اليوم يرافقهما سلفها “إبراهيم” في السوق خارج القرية وقد لا يتمكنون من العودة قبل صلاة العشاء إن لم يفكروا في المبيت هناك أصلًا.
احنا اهلك وضنا سيدك…. راهم في السوق وتبيلهم لبعد العشاء كان روحوا.. باهي اربطي العيل بالحبل.. وبعدين ساهل.
ترددت قليلًا، ومع استمرار ولدها في البكاء قالت: خلاص خوذوا “عليوة” وأنا نستني وأمري لله.
ذهب أحدهم وأحضر زوجته كي تقنعها بالخروج وقد تنحى الرجال جانبًا، لكنها رفضت أن يخرجها رجال القرية بثياب مبتلة ملتصقة بجسدها، وفضّلت الموت على ما يمكن أن يجلب لها السخرية و(العار) يومًا ما، فقط رضخت لربط ابنها بالحبل كي يتم إنقاذه إذ يبدو أن قدمه قد كُسرت ولم يتوقف عن البكاء من فرط الألم، وظلت هي في كوة صغيرة داخل البئر كانت مجهزة لاستراحة النازلين لصيانته وكان بعض الشباب يستخدمونها خلال غاراتهم لاصطياد الطيور التي تبني أعشاشها بين حجارته وقد يخرجون في هروب عشوائي إن نزلوا واكتشفوا وجود حية أو صُل داخله.
وبعد أن صارت “الساكتة” وحيدة في البئر والظلام بدأ يغشى المكان بمرور الوقت ساورها القلق والهواجس والخوف، كانت تخاف المجهول وأن تبقى في البئر الموحش حتى حلول الليل واستعادت ذاكرتها كل ما حفظته من قصص الجان والغولة، تلفتت حولها وهي تردد ما تحفظه من القرآن الكريم لتتأكد أنه ما من غولة تراقبها، ثم انقبض قلبها فجأة حين لمحت حية تزحف بين حجارة البئر وبدا لها أنها تلتهم البيض والفراخ في بعض الأعشاش، وارتفعت نبضاتها هلعًا وهي تحبس أنفاسها فإما أن تهاجمها الحية وإما أن تهرب هي منها فيلحق بها ما تخشاه من عار!! لكن الحية حدّقت لبرهة في المرأة التي خُيّل إليها أنها لمحت خيال أنثى يتمايل مع الحية وهي تنسحب بهدوء مبتعدة عنها وتنزلق بين حجارة البئر تاركة أعشاشًا خاوية سيكون كل منها مثار حزن عميق للأبوين اللذين لم يكن أمامهما إلا الرفرفة بالأجنحة والصراخ فزعًا في عجز تام عن إنقاذ صغارهما.
أسرعوا بالصغير “علي” للشيخ كي يقوم بتجبير القدم المكسورة بلبخة من مزيج الحلبة المطحونة واللبن وتثبيتها بغصنين يابسين من شجرة الزيتون بعد تشذيبهما، وأمضت المرأة ساعات داخل البئر وحيدة وقد اطمأن الرجال لوجودها في الكوة لكنهم لم يبتعدوا عن المكان خاصة وأن الليل بدأ يغلّف القرية، أحيانًا كانت “الساكتة” تشعر أن شخصًا ما معها لكنها لا تراه، لفحتها أنفاس ساخنة قرب وجهها وبصعوبة تفحصت حولها في الظلام فلم تلحظ شيئًا، ولم تعرف هل هذا حقيقي أم أن الخوف يصنع الإيحاء، ونادت:
هيه يا مربح.. يا بن سيدي.. فرد عليها أحدهم:
نعم يا بنت عمي.. التريس من بكري يراجوا امسكي الحبل لا تخافك.
لم ترد عليه، كان يكفيها أن تسمع صوتًا بشريًا لتطمئن لوجودهم بالجوار.. لكنها لن تخرج، فربما كلفها الخروج العودة لبيت أبيها وخسارة حياتها الزوجية وأولادها!
وبعد صلاة العشاء عاد الجمع من السوق وكان هناك من ينتظرهم على أطراف القرية ليخبرهم، وعلى ضوء المشاعل في ليل دامس نادى “الفيتوري” على زوجته كي تمسك بالحبل، ولمّا اطمأنت “الساكتة” تسلقت البئر وخرجت بعد أن غطى زوجها فوهته بجرده والتحفت هي بالجرد على ثياب شبه جافة، وحملها في صمت على (الحمار) وعادت لبيتها مع زوجها وشقيقها وهي ترتجف من البرد والخوف وقد سرت في أعماقها قشعريرة غريبة لم تعهدها من قبل، فيما أطلقت بعض النسوة زغاريد الفرح بسلامتها.
ومع أن تصرف “الساكتة” الحازم كان مثار فخر لزوجها وشقيقها وجنّبهما عبارات ساخرة قد يلقيها البعض في مزاح ثقيل خلال جلسات السمر عند دكان القرية، لكنها بعد مغادرة “عمّار” تعرضت للتقريع من زوجها الذي حمّلها مسؤولية ما حدث وأنّبها على إهمال ابنها..
بالله في شنو كنتِ مشغولة وشيرتك مذهوبة لين صار اللي صار؟ علاش مش رادة بالك من صغارك؟ افرضي الولد بدل رجله انكسرت رقبته؟ شنو بيعوضني فيه؟ وشنو هي الحاجة اللي أهم من “علي”؟
والله الا كان قدام عيني، لكن طيش صغار، والله يا دوب تلفتت رويحة نحكي مع “امناني” بنت سيدك، ونسمع صيحته من غير رادة مني نقزت وراه.
لا خلاص.. أطلق الطير واجري تحته.. نقزتي وراه، ردي بالك فالجديد تطرَى حاجة في عيل، هالمرة ربي قدّر ولطف، الجاية والله ما تباتي فيها عندي ليلة..
قال عبارته الأخيرة وهو يمسك بها ويهزها بعنف حتى أن يده تركت أثرًا على عضدها مسببًا لها الألم، لكن وجع الروح كان أكبر.
بكت “الساكتة” بحرقة وهي تستقبل غضب زوجها وكلماته وتجتهد في الدفاع عن نفسها دون جدوى، كانت في مجتمع برجاله ونسائه يلقي كل اللوم على النساء ويحمّلهن مسؤولية كل ما يكدر صفوه، وباتت ليلتها في هذيان وكوابيس مزعجة ترى فيها حية كبيرة تطاردها بين الأشجار في الظلام وتكاد تمسك بها، بينما “الفيتوري” وأولادها واقفون بعيدًا كأنهم لا يرون ما يجري، ونهضت من نومها فزعة أكثر من مرة لتشرب جرعة ماء وتسرد ما شاهدته بصوت خفيض و(تتفل) ثلاثًا على يسارها ثم تعود للنوم في كل مرة.
في الصباح بعد خروج زوجها دون أن يكلمها أو يرد حتى عليها تحية الصباح، اختلطت داخلها مشاعر الحزن والإحباط وتأنيب الضمير، فقد كان لديها أيضا شيء من القناعة بمسؤوليتها عما حدث خاصة عندما وقعت عيناها على طفلها بقدم مكسورة ستقعده بعض الوقت عن اللعب مع أترابه، وستجعله في حاجة أكثر لرعايتها وستكون سببًا في قسوة زوجها عليها كلما أحس برغبة في التنفيس عما يعانيه من ضغوط الحياة.
مع الضحى اجتمعت عندها سلفاتها والجارات يتحمدّن لها بالسلامة، ويستكملن حوارات الأمس التي قُطعت بسببها هي وولدها!، نعم هن أيضًا كن مقتنعات بمسؤوليتها وولدها عن قطع حديثهن وأعمالهن واضطرارهن للعودة دون إكمالها.
صوت غليان الشاي في (البراد) على الكانون ورائحته التي ضمخت الأجواء جعلا الحديث ينحو نحو الحميمية ومواساة “الساكتة” وهن يشربن شاي العالة مع خبزة الفرن والفطيرة ويستذكرن أحداثًا مشابهة بعضها كانت نهايتها مأساوية.
تتفكري في بنت “عواشة” مسكينة رجيلتها قاعدة تعرج منها لتوا وآهو سنين ليها من هاذيكا الطيحة مسيكينة، عاد منو بيها اميمتها متوفية وما حد رد باله منها برت رجيلتها على العياب.
بعيد السو على عليوة، نرد بالي منه انا وبوه وان شا الله ما هناك سو.
ان شا الله غير مولى بيتك ما عارككش؟ سألت “سالمة” بخبث.
يعاركني على شنو؟ قالت “الساكتة” وأضافت:
هو صح تغشش على ولده زي كل بو، لكن حرام ما قال حاجة، شنو انا اللي طيحته؟!
كثير من نساء ذلك الزمن كن يجتهدن في كتم ما يتعرضن له من تعنيف من أزواجهن بل ويتظاهرن بحدوث العكس، كل منهن تخشى الشماتة كما نظرات العطف الممزوجة بالسخرية، ويكون الأفضل عندها إنكار ما تتعرض له من سوء وادّعاء حياة مريحة سعيدة حتى أمام من يشاركنها نفس البيت وبإمكانهن سماع الأصوات وضرب السياط.
تكررت الكوابيس المفزعة عدة ليال، حتى صارت “الساكتة” تخشى النوم وتراجعت صحتها بسبب الأرق، وتشكّك زوجها والعائلة في كونها تعرضت لـ(مَس) من صلاّح البئر، فذهب “الفيتوري” لفقيه القرية الذي أكّد له شكوكه وأخبره أن الإنسان في لحظات الفزع الشديد قد يتعرض لهذا وكذلك إن تسبب في ضرر لأحد الجان بسبب أي فعل فسيتعرض دون شك للإصابة، والمرأة فزعت وقفزت في البئر وقد تكون لم تقرأ البسملة وعلى هذا فالمَس وارد في مثل حالتها، لكنه طمأنه وأعطاه حجابًا أمره أن تضعه تحت وسادتها وآخر تنقعه في الماء وتغتسل به 3 أيام عند الفجر، وتعيّن على زوجها أن يقرأ الفاتحة والإخلاص والمعوذتين وآية الكرسي وهو يضع يده على رأسها كل ليلة كي تتمكن من النوم وتفارقها الكوابيس.. وبدا بعد أيام من الحادثة عطوفًا حنونًا عليها، وهذه طبيعة الرجال في ذلك الزمن هم خليط من القسوة واللين، يبالغون في إظهار القسوة والشدة وإخفاء الاهتمام والعاطفة قدر الإمكان وتظهر عواطفهم في تصرفاتهم في صورة عناية أو رعاية وفقط في أشد المواقف، وما أن يلاحظوا انتباه أي كان حتى يعودوا لقسوة مصطنعة من جديد، و”الفيتوري” لم يكن استثناء.
بعد أسبوع حان موعد السوق مجددًا، وقبل خروج “الفيتوري” نبّه على زوجته بعدم الذهاب للبئر طالما أنها ليست قادرة على الاهتمام بالأولاد هناك، وبعد أيام عاد كل شيء لطبيعته، وتماثل “علي” للشفاء، وانضم لبقية الأطفال في الركض والضجيج طول اليوم، وانشغل الناس بقصص أخرى.
لكن “الساكتة” كانت فعلًا يوم البئر على موعد مع أول لقاء مع الجنية وكوابيسها ستغدو حقيقة وستتغير حياتها كليًا حتى تلقى مصيرها المأساوي.