هدي النعيمي | قطر
كما هو اليوم، حرب الاجرام على غزة التي قلبت المفاهيم يثمن غال جدا، و ما يزال الثمن في السداد، و ما تزال الحرب عابرة للأوطان و الصورة تصرخ و الثمن في سداد، مشهد حرب ليس بعيد عن حدث اليوم، سجلته الكاتبة رازان المغربي في روايتها (الرسام الانكليزي) التي نشرت قبل شهرين فقط و كان لي نصيب قراءتها، تشابك الرواية بين الحرب و السلام، الحب و الاغتراب، حرك الرغبة في الكتابة حول الابداع لدي فكتبت السطور التالية و تنشر اليوم في جريدة العرب القطرية بعد تأخير لأسابيع لأولوية النشر للأحداث الاخيرة، هنا اكتب حول الرواية : عندما تصادف رواية بعنوان (الرسام الانكليزي) يتبادر الي الذهن فوراَ، و قبل الدخول في التفاصيل، الفيلم السينمائي الرائع (المريض الانكليزي) الذي تدور أحداثه مع الجنود و شخصيات عامه، أبان الحرب العالمية الثانية، تلك الاحداث التي كتبها الروائي السيريلانكي مايكل اونداتجي، متنقلا بها من بلد عربي الي آخر، و ربما هذا هو العامل المشترك الوحيد، مع رواية ( الرسام الانكليزي ) الصادرة مؤخرا عن منشورات ضفاف، و منشورات الاختلاف و الديوان للنشر، بتوقيت متزامن .
الرواية بقلم الروائية الليبية رزان المغربي، والتي تدور بالقارئ في رحلة طويلة مع جنود بريطانيا العظمى، وبالتحديد مع الجندي (جون برايل) الذي يعيش بداخله فنان يعشق الخطوط والألوان، لكنه يجد نفسه محبوساً في جسد جندي يحمل السلاح ويحارب به على أرض بعيده عن أرضه، وبلاده، ولكن قادة بلاده قد قرروا دخول الحرب لوضع حد لتمدد هتلر في أوروبا، ورومل في الشمال الافريقي / العربي.
الرسام الانجليزي تقدمه الرواية مع زملائه جنود جيش المملكة، إليزابيث الثانية، وتقدمه الروائية في البيئة الليبية حيث يبدأ مع سدَينة، وهي في بداية شبابها خلال الفترة الزمنية التي بدأت طبول الحرب العالمية الثانية خلالها تٌقرع في كل انحاء العالم و”سدينة” امرأة ليبية بالمعني العميق، شخصية محورية في رواية رازان المغربي، تتكئ عليها وتدور حولها أحداث الرواية الممتدة على مساحه ٣٥٠ صفحة، لتغطي نحو سبعين عاماً من الأحداث الجسام، شهدها العالم و شهدها المجتمع الليبي الذي خصته الروائية رازان المغربي بروايتها .
“سدَينة” لها صديقاتها اللواتي يشاركنها التاريخ والأحداث، ولا تنقطع احداهن عن الاخرى، حبابة وخيرية اليهودية، حيث تقدم الروائية، هنا مجتمعا ليبيا أبان الحرب العالمية الثانية، مجتمع متصالح مع كل أطيافه، لكل ذي دين دينه، وإن كان يهودياً او مسيحياً، لا يقلل ذلك من شان مواطنته في هذا البلد، او من محبة الآخر له، والتي تمتد حتى مراحل العمر المتقدمة، لنجد “سدَينة” يوماُ تهاجر مع حفيدتها سلمي الي ايطاليا، لتكون قريبة من خيرية التي هاجرت قبلها بسنوات الى إيطاليا.
الرسام/ الجندي جون برايل، يجد نفسه في مرحلة من مراحل تنقلاته الكثيرة مع قوافل الجيش الانكليزي، يجد نفسه في طبرق الليبية، و لأنه يعرف نفسه كرسام،و فنان، اكثر مما يعرف نفسه كجندي يمسك بالفرشاة،و يرسم في القاهرة، ثم يرسم في البراديا/ ليبيا، على جدار أحد المباني، جدارية مميزة، سميت فيما بعد (جداريه البراديا و طبرق ) و هذه موجوده في حقيقه الامر، وهي التي حثت الكاتبة و الروائية لتشكل روايتها حول الجدارية،وعنونتها ” الرسام الإنكليزي – حكاية جداريه البراديا و طبرق”، وهي ليست رواية واحدة، بل انها رواية من روايات، وهي أيضا رواية مكان بجدارة، حيث تصر الكاتبة على وصف المكان، مكانها الذي تعرفة، طبرق، و ما حولها، تلمس بين صفحات الرواية الشخصية العربية الليبية بين الحرب و السلم، كما تلمس الضعف الإنساني عند جندي، يحمل السلاح،و لا يعرف السبب، وتقدم الرواية العديد من شخصيات، تمتد على ثلاثة أجيال، و احداث يتداخل فيها الحرب و السلم، المحبة و التنافر، القرب و البعد، و الوان من الفرح و الأحزان.
يحارب جون برايل، الجندي الإنكليزي او الرسام الإنكليزي، يحارب مع جيش بلاده على أكثر من جبهه، يلتقي، و هو ينتقل مع افراد كتيبته، على سطح مركب يعود بالجنود الى إنكلترا، يلتقي بها، آن ماري، الشابة البريطانية التي تعمل ممرضة تصاحب الجيش أينما حل، ثم تظهر آن ماري امام جون مرات متعددة، ولابد ان شغفة الشديد للقائها بين زمن و أخر، شغفة هذا يضعها أمامه، مره على سطح مركب، ومرة في القاهرة، و مرة في طبرق، لتصبح حبيبته التي لا يمهله القدر في الاجتماع بها أكثر من ليله واحدة تسمح بها مساحات الحرب،و السلم في الاقتراب من الحبيب، لكنها تظل الوفية لذكرى قصيرة.
هموم و أحزان الجندي جون برايل، يصبها على الورق، فمعه ورقة صغيرة، و قلم رصاص قصر طوله، والورقة قد تكون منفذا للخروج من محنة الانعزال، ومشجعاُ على الكتابة، و أما اذا حضر جورج الصديق، صار للحوار و تشكيل الحروف معنى آخر حيث يلازم جورج صديقة جون في محطات عديدة، مع الكتيبة التي تحارب على مضض خارج أرضها، و لكنها أوامر القادة التي لا ترد و لا تناقش في الحياة العسكرية، وفي قلب الحدث الخطير كما تخبرنا الروائية تحاصر القوات الإيطالية بقيادة رومل ثعلب الصحراء، تحاصر “طبرق”، لشهور طويلة، والقوات الإيطالية و الألمانية و الإنجليزية، تتنافس للحصول على طبق طبرق اللذيذ، لكن المنتصر الحقيقي في نهاية الأمر، هو طبرق نفسها و أهلها الكرام، هذا الذي يدركه صديقة جورج، لكنه لم يكن مستعداً لاستيعاب فقد صديقة جون، الجندي الرسام .
وتضع الحرب أوزارها، لكن آن ماري، والتي صارت زوجة لجورج تكرر الرحلة تلو الرحلة الى طبرق، وتحمل معها علب ورنيش من النوع الجيد وفرشاة، تدخل الى المبنى العتيق، تطلي مساحات من جدارية البراديا وطبرق، وهي التي سميت أيضا جدارية مباهج الحياة، وهو ذاك الأثر الفني الذي خلفه جون وراءه، واعتقدت بأنه سيعود إليه يوماً ما، ليضع فوق الجدارية الورنيش لحمايته، لكن القدر قال كلمته، ومات جون متأثراً بجراحة.
يوميات الحرب التي كتبتها الروائية رزان المغربي بتحقيق تاريخي عميق لم تكتب بفعل الخيال الروائي فقط، و لكن الكاتبة، و كما صرحت، اعدت دراسة متكاملة حول الحرب العالمية الثانية، يوما بيوم، و اطلعت على كل ما تم تسجيله في الوثائق عن الحرب، كذلك اطلعت على الوثائقيات على أكثر من طرف و خاصة تلك التي تخص على وجه التحديد الجانب الإيطالي، فالرواية تغوص في عالم الوجود الإيطالي في طبرق، ففي هذه رواية، نعرف شيئا كثيرا عن الحرب و السلام، كما نعرف الكثير عن خطط رومل و هتلر، ومونتغمري، و تحركات الجيوش الأجنبية على الأراضي العربية، وقد حاولت رزان ألا تبتعد عن حقيقة المشهد خلال سنوات الحرب، فشكلت عالماُ من المتخيل حول الحقائق التي قدمتها الوثائق المكتوبة، و الوثائقيات المصورة.
هذا عن الجنود وجنرالاتهم وحروبهم أما المجتمع الليبي فهو قصة مختلفة ويتم تناوله من زاوية روائية أخرى، فالسيدة الليبية المثال “سدَينة” النموذج،فهي الفتاة سدَينة،و هي الأم سدَينة،و هي فيما بعد الجدة سدَينة، الباحثة دون كلل عن أخوها المبروك الذي اختفي في زمن الاحتلال الإيطالي، ولم تصدق سدَينة قصة الاختفاء هذه، وظلت طوال سنين عمرها التي لا تنتهي مع نهاية الرواية، باحثة عن المبروك، وعندما صارت في روما مع حفيدتها سلمى، و سلمى هذا هي الراوي في فصول الرواية التي تلي شباب سدَينة حيث تظل سدَينة تعتقد، و تؤمن انها ستجد المبروك في طريقها يوماً ما، او انها ستجد ابنه او ابنته، أو ان احد أحفاده سيجد طريقه لها، لكنها ابدا لن تصدق ان المبروك اختفى دون عودة .
شخصيات الرواية الكثيرة، تنتشر على مساحة زمنية ما بين 1940 وبقية سنوات الحرب، وآثارها الممتدة لزمن طويل، وقد اختارت لها الكاتبة، تسعينيات القرن الماضي، كمحطة في المنتصف، و أخيرا تصل الي زمن الثورة على العقيد القذافي عام 2011، فتضطرها الأحداث وتراكمها لصناعة شخصيات رئيسة مثل سدَينة و سلمي، و المنصوري و حامد، و شخصيات مساعدة مثل حسن الأعرج، الذي ظهر قبيل انقلاب القذافي، متنبئا بان الحياة السياسية ستقلب الموازين في ليبيا قريبا، و أما الشخصية المحورية، جون برايل، الرسام الإنجليزي، فقد وجدت الكاتبة ضمن بحثها التاريخي لتلك الفترة، رسالة من والدة الجندي الى صحيفة “الديلي ميرور” و هي تفند فيها مقالا نشر حول ابنها، و بناء على هذا، قامت الكاتبة بتخيل حياة شخصية كاملة للجندي الرسام، و تخيلت أيضا من خلال التحليل النفسي كيف يمكن لمن كان مثله ان يلتحق بالجندية .
الحديث عن رواية “الرسام الإنجليزي ” سوف يأخذك الى أحداث الحرب وزمنها، وسوف لن تخرج منها الا بمشاهد من الألم الشديد، وقد تحايلت الكاتبة رازان المغربي على ذلك بتضفير قصص الحب، والصداقة، ضمن نسيج روائي ممتع، يحتاج من القارئ الى التمعن في قراءه الصفحات، وتخيل الزمن الذي عاشته رزان في روايتها.
انها سبعون عاماَ، وهي شديدة الوقع على النفس و لكنها أيضاً، تطير بقارئها من زمن لأخر، و من مجتمع ليبي بدوي الى مجتمع عسكري إنجليزي حيث تختلط العوالم والملامح والشخصيات، والعادات، واللغات فتحقق تلك الرحلة في هذا المزيج متعة القراءة و البحث، والمعرفة التي تقدمها الكاتبة على طبق من رواية اسمتها “الرسام الإنكليزي” الذي لم تكن جداريته التي تركها في ليبيا، إلا الشرارة التي حرضت الكاتبة الليبية التي تعيش في المهجر حاليا، على الدخول في عوالم شخصيات متناقضة تبحث بإصرار، وعلى وقع المدافع، وأزيز الرصاص عن الحرب، والسلام .