طارق عبد الوهاب جادو | مصر
يبدو الحنين إلى الماضي وذكرياته التي عاشت بين القلب والروح جلية كما الشمس في كتابات الأستاذة عزة المقهور الكاتبة الليبية المبدعة في مجموعتها القصصية المعنونة ”امرأة على حافة العالم”، تأخذنا فيها بين مشاهدات وأحداث عاشت بعضها مؤكداً وأخرى كانت من نسج خيال طاف بالماضي وامتزج بأحزان الحاضر ومكابداته ثم استشرف المستقبل على أمل التقاء الحلم بالواقع والآمال.
عند العتبة الأولى المتمثلة في عنوان المجموعة تجد الخيط الأول الذي يشدك إلى ما تحتويه القصص من حنين جارف إلى ماض كان زاخراً بالجموح والطموحات، فالوقوف عند حافة العالم يمثل الوصول إلى أقصى الغايات من الترحال والسفر بالجسد أحياناً وبالروح تارة أخرى لامرأة عاشت الكثير وخبرت من الأحداث والمقادات ما مكنها من تجسيد شخصيات قصصها بحنكة ودربة واقتدار، هي المسافرة إلى باريس مدينة الأنوار والجمال، الهاربة من الخريف القابض على الأشياء من حولها وعلى سني عمرها التي تتفلت من بين الأصابع، كما هو الحال في قصتها ”الطابق الواحد والثلاثون”، وهي ذاتها تلك المصورة الفوتوغرافية التي التقطت وجه تلك المسنة الجالسة في شرفتها تبحث عن رفيق تبثه أحزان الرحيل عن عالمها الأول، وأيضاً.. القابع على حافة العالم، علهما أن يجدا السبيل إلى الفرار من الفراغ أمامهما بينما يتأملان السماء والطيور التي تميل بأجنحتها المحلقة كأنما هو حلمهما المشترك في الحرية والانطلاق في عنفوان مفقود، تلك هي الحكاية في قصة” امرأة على حافة العالم” وهي التي حملت المجموعة القصصية عنوانها ليصبح هو المفتاح لكل ما تلاه من أقاصيص وحكايات.
أما عن البناء السردي للمجموعة فقد ارتأت كاتبتنا أن يكون تقليدياً مسترسلاً في حواراته وصوره، حنى لكأنه بالإمكان أن تجعل من تلك القصص المفردة فصولاً مجزأة من رواية بطلها واحد ومشاهدها متعددة. يتضح ذلك بجلاء شديد في قصص مثل ”زيتون” ذلك الذي يستدعي ذكريات أبيه الشاعر مع أمه التي لا تكاد تمسك كتاباً حتى ولو كان بالمقلوب، يخايله حديث أبيه في الحمى: ”قلت لك ارحل.. البلاد يحكمها أهلها”.. ”هيا ارحل.. ارحل فأنت لست منهم”.. فلا يفهم ”زيتون” السبب في الطلب لتفسره لنا ”عزة المقهور” في مفارقة صادمة عن الوطن وأرضه ومآله: ”كان يحكمها غير أهلها لذا تعين علينا البقاء.. وحين حكمها أهلها جاؤوا بالجوع والفقر والقتل”!!.. ذلك هو الواقع الصادم الذي يعيشه الآن وطن مسلوب.. ولكن من أهله!
وفي قصة ”الرجل” التالية مباشرة نجد البطل المأزوم تحدثه أم شبيهة عن فكرة مغايرة وأكثر شمولية، عن الحلم والواقع، ما تلمسه بيدك وما لا تطاله رؤاك، كيف لخيوط الشمس أن تتلاقى لتسقط وتتركز في ورقة شجر خضراء أسطورية لا يعرف عنها أحد شيئاً حتى من هم خبراء بالزراعة والنبات، ونجد البطل يعيش نفس الحالة على سرير المرض يحاول استجلاء الحقيقة، هل من اللازم والضروري أن نلمس الأشياء بأيدينا لنتحقق من وجودها أم أنه بالإمكان أن توجد حتى وإن خلقت أولاً في ضمائرنا ومشاعرنا وخيالنا الجامح؟!.. ولأن الكاتبة لا تحب لنا أن نعيش اليأس ونفقد الأمل نجدها في نهاية القصة تحزم لنا أشعة الشمس الملوحة من بعيد عبر نافذة الغرفة المستلقي بطلنا فيها على سرير المرض – وربما الموت ـ- ليتأكد في لحظاته الأخيرة من وجود تلك الورقة الخضراء من الشجرة الأسطورية فتضيء وحدها بينما يعتم كل شيء حوله.
ولمشاهدات الماضي في قصص ”عزة المقهور” نصيب كبير جسدته لنا في عدة فصول من هذه القصص الروائية أو الرواية القصصية، مشاهدات ربما لا تعدو كونها لحظات بسيطة المضمون كالتهام ثمرة فاكهة كما في قصتها ”هكذا أكلت المانجا”، وأخرى أطول قليلاً حين تروي مكابدة امرأة وزجها في حر الصيف وصهده مع انقطاع الكهرباء بينما ”طريق السكة” يتلألأ بأنواره وكهربائه، وتطول الحكاية أكثر مع قصص مثل ”قشور الكاكاوية” و”توتة عمي بومدين” و”رد الشيرة”.. ثم نرى الختام في قصتها التي ذيلت بها ضفائر القصص “يس.. يم” أو ”يسار.. يمين” وهي قصة التحول الذي جرى لفتاة العرض المدرسي من فتاة الحلم في واقع مدني يزخر بالتطلعات نحو العلم والمعرفة والاختلاط مع الآخر وانغماسها القسري في عرض عسكري يرمز إلى التحول لفكر المجتمع والسلطة في ذلك الوقت.. مشاهد متقطعة متتابعة تحكي مكابدات ومعاناة تلك الفتاة وزميلاتها الصغيرات الحالمات بالغد الصبورات على الأذى كما تقول الكاتبة فتصفهن لنا وكأنهن يعبرن عن ذاتها هي، وكيف أنهن قد استطعن الحفاظ على أنوثتهم وقدرن على نسج جدائلهن وأن يكبرن مع أحلامهن بعد أن نزعن غطاء الخوف عن الروح وقاومن الانزلاق نحو الكراهية.. وفي النهاية أمكن لهن أن يردمن الفجوة التي فتحت وتعمقت بين أنفسهن التواقة المتطلعة نحو الأفضل والأجمل وتلك التي أطلقت لقمعهن وقتل أحلامهن الصغيرة.
وأخيراً.. ينبغي الالتفات والإشارة إلى لغة الحوار والسرد التي انتقتها ”عزة المقهور” من صميم الوطن ومحادثاته اليومية، فهي لغة عامية ليبية تقدم لنا وتصف بعبارات ومصطلحات جزلة الكثير من الصور والمشاهد اليومية من الحياة الشعبية الليبية لنتعرف على الكثير والكثير من عادات وتقاليد هذا الشعب العربي الطيب والجميل معاً.. نأكل من طعام موائده ونحكي عن أحزانه ونتطلع معه لآماله وطموحاته نحو عالم وحياة ومستقبل أفضل.
صدى (ذاكرة القصة المصرية)، 11 فبراير 2023