المقالة

هل انهزم صاحب الكيان؟

الذكرى الـ30 لرحيل الكاتب والمفكر عبدالله القويري

الكاتب عبدالله القويري
الكاتب عبدالله القويري

لازلتُ أتذكر اهتمام الصحافة الكويتية خاصة مجلتي (النهضة) و(المجالس) بمسرحية (الصوتُ والصدى) لمؤلفها الراحل عبدالله القويري أثناء عرضها ضمن فعاليات الأسبوع الثقافي الليبي في الكويت خلال منتصف سبعينات القرن الماضي، ببطولة الفنانة سعاد الحداد بجانب الفنان علي القبلاوي رحمهما الله وإخراج الفنان القدير محمد القمودي، واستقبال الصحافة الكويتية لها بحفاوة تليق بها نصاً وعرضاً حتى أن أحد المقالات كانت بعنوان (الصوت لسعاد الحداد من ليبيا والصدى في الكويت).

(الصوتُ والصدى) لم تكن مجرد صرخة حوارية مطولة على خشبة المسرح، أو جزئية منفردة أو منفصلة عن عقل ووجدان الكاتب الراحل عبدالله القويري، بل حلقة في سلسلة متعددة من اهتماماته ورؤاه الفكرية التي أبان عنها مبكراً في (ذلك العساس) و(معنى الكيان) و(كلمات إلى وطني) و(رحلة الاقتراب) و(الكلمات التي تقاتل) وغيرها، وهي تمثل انشغالاته الدائمة بالشأن الوطني والقومي سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وطموحاته وأحلامه بمستقبل مشرق وغد واعد للوطن العربي كافةً، ومكابداته ومعاناته الشخصية مما تعرض له نظير ذلك من تحديات فكرية ومضايقات خاصة محنة السجن الذي زج به في ليبيا عقب خطاب زاوره للعقيد القذافي عام 1973م.

ولقد ارتبط الأديب الكبير عبدالله القويري في الذاكرة الليبية بفكره الجدي الصارم، وعصبيته العروبية، وقلقه المتواصل حيال الأوضاع المتردية في الوطن العربي، مما أثر على مجرياته الشخصية وانعكس على نفسيته الداخلية المضطربة فانصبغت بها حياته غير المستقرة سواء في مصر أو ليبيا أو تونس أو باريس أو لندن وهي البقاع التي عاش وأقام فيها خلال ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بحثاً عن بؤرة ضوء وفضاء عروبي يمنحه قليلاً من الأمن والاستقرار وفرصةً للتفكير بصوتٍ عالٍ دون أي حجر أو رقيب أو تعنيف.

ولقد اعتمد الأديب عبدالله القويري في جلِّ كتاباته الأدبية خاصة مسرحية (الصوتُ والصدى) على إيصال فكرته عبر حوارياته المتمكنة في اللغة، وبساطة سياقات العرض، ومتعة الأسلوب السلس، الذي استطاع بها أن ينقل بكل رصانة ومحاججة ومواجهة هادئة ما يتفاعل ويموج داخل فكره، ويضج بأعماقه من قلق بالغ حيال وطنه وأمته وقضايا الإنسان كافةً، مع امتلاكه بصيرة صائبة وقراءة عميقة للأحداث، وتحليل دقيق تجسد في إيمانه ويقينه المطلق بمرارة الهزائم المتعددة التي نالت من الوطن على امتداد الجغرافية العربية وذات الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج في كيانه الفكري وشخصيته ومصير أمته، وتتبين بعض تلك الرؤى في هذا الجزء الحواري القصير من المسرحية الذي يدور بين رجل يتجاهل هزيمته حد الإنكار، وعدم قدرته على مواجهة صوت نسوي يعريه ويفضحه:

(الرجل: هل أنا مهزوم؟

صوت المرأة: أنت الذي هزم نفسه.

الرجل: هل أنا مهزوم؟

صوت المرأة: أنت الذي كذب، وأراد أن يصدق كذبه غيره.

الرجل: هل أنا مهزوم؟

صوت المرأة: أنت الذي ادعيت التحرر والتطور.

الرجل: هل أنا مهزوم؟

صوت المرأة: وتراوغ فلا تريد أن يقولها لك أحد.

الرجل: هل أنا مهزوم؟

صوت المرأة: وتصر على أن يصدقك غيرك.

الرجل: هل أنا مهزوم؟

صوت المرأة: نعم. أنت مهزوم، صدقت أم لم تصدق! في أعماقك تؤمن بهزيمة المرأة.. تلك الهزيمة الأزلية..)(1)

إن تركيز الأديب الراحل على استعمال الحوار ليس باعتباره إحدى تقنيات الكتابة فحسب، بل لإيمانه به كمؤشر ودليل على الحالة الصحية والتفاعلية بين أبناء المجتمع (ما يدُّلُ على المناخ الديمقراطي هو الحوار الجاد، والبحث عن جذور المشاكل والمعاناة الحقيقية لهذه المشاكل والعمل على فهمها)(2) لذلك يأتي اهتمامه بالحوار مستمراً في جلِّ كتاباته المسرحية والقصصية والفكرية ليقينه بأنه الوسيلة الناجعة لإثبات الفكر الحقيقي ودحض ما يخالفه، وقد أكد ذلك مراراً حين كتب (حوارٌ حول الحوار)(3) الذي ناشد بترسيخه كسلوك يومي في حياة الجميع.‏

أما استخدامه تقنية تكرار السؤال في هذا الجزء المقتبس من حواره بمسرحية (الصوت والصدى) فهي تبعث إيقاعاً مميزاً، وتزرع تشكيكاً في مدى صدقية التهمة وبالتالي انتباهاً وحرصاً ومتابعةً دقيقة لتداعياتها، وفي نفس الوقت توطن فن الإصغاء للآخر وسلوك الصبر والاستماع إلى بيانها، والصمود لمواجهتها بكل دلالاتها المباشرة وبرمزية شخصية المتحاورين الثنائية (الرجل/المرأة) وإمكانية إسقاطها على الوطن والأمة والإنسان في الزمن الراهن.

وتأتي هذه التقنية ضمن فلسفة ونظرة الأديب الراحل عبدالله القويري لأهمية ودور الكتابة الإبداعية التي نجدها تتأسس عنده على الجدية والتحفيز والحث الدائم على المغامرة حد التمرد على القوالب الفكرية النمطية السائدة في المجتمع، ومن خلال ذلك تتشكل عنده شخصية الكاتب الحقيقي كما يعبر عنها في (ذلك العساس) ويؤمن بها قائلاً (إن الكاتب الذي يتمرد على هذا الواقع، أو يره غير جدير بأن يعيشه، أو هو يجعله يعيش واقعاً أقل من الواقع الذي يرسمه، إن هذا الكاتب إذا ما نظر إلى هذا التكوين، وارتباطه به في الوقت الذي يرتبط فيه بالحركة الإنسانية والحضارة وأدواتها وفعلها -أقول إذا ما نظر- إلى نوعية هذه العلاقة نظرة عميقة لوجدها تعطيه خصائص فريدة ستنعكس في إنتاجه، وهي تثريه بقدر ما أثرت تجارب العناء الإنساني في الأدب الإنساني.)(4) 

هكذا هي تطلعات وأفكار الأديب الراحل عبدالله القويري التي ينشد فيها مقاعد متقدمة للكاتب في رحاب الإنسانية الأوسع وليس في ركن اقليمي ضيق. أما بشأن مفهوم ومعنى الكيان والهوية لإنسانية المواطن العربي والإنتماء للثقافة المستنيرة التقدمية المعاصرة، واشتراطاتها الفنية، فقد ظلت بالنسبة له أثناء فترة المد القومي العروبي ذات سقف عالي تغرد منفردة، وغريبة عن محيطها الفكري الذي لم يمتلك المقدرة الذهنية لاستيعابها بعمق، وبالتالي لم تنل الفهم الواضح من المثقفين والسياسيين في ذاك الوقت، وها نحن نجدها كما هي في زمننا الحالي ترتحل بين طيات تركة كتبه ومؤلفاته إلى سنوات ما بعد فترة المد القومي، ولكنها للأسف لازالت عصية عن الفهم بالنسبة لهذا الجيل وكأنها عجزت أن تنال الاهتمام والتمعن في حيثياتها وتطلعاتها التقدمية، وبالتالي وهنت وهوت في انهزام فكري يعيشه حالياً الوطن العربي بكامل أقطاره من المحيط إلى الخليج، أدى إلى ضياع ثالوث (الكيان والهوية والثقافة) الذي كان مجسداً عند الراحل عبدالله القويري بمعنى (الوطن) والإنتماء بكل أبعاده ودلالاته وتضحياته وتاريخه وحضارته.

ونحن طالما لازلنا لم نستوعب ذلك الطرح الفكري والفلسفي العميق والمستنير الذي قدمه مبكراً الأديب الراحل عبدالله القويري لمفهوم الهوية والكيان والإنتماء والثقافة ومسؤولية الكلمة والكتابة الجادة فإن مستقبل (الوطن) و(الأمة) لن تبزغ شموسه قريباً، وستظل حالات الهزيمة مستوطنة في ثنايا الروح العربية، تكبل كل مشروع فكري نهضوي يسعى لردم التخلف والجهل، ولملمة شتات الفكر وإطلاق مسيرة البناء لتشييد أبراج ومعالم الحضارة والتألق العصري، وقد يكون هذا الإحساس قد شكل رؤية استباقية عند الأديب الراحل عبدالله القويري فخاض معارك عديدة للتنبيه والدفاع عن نظرته ورؤاه الثاقبة، ولكنه حين تلقى صدمة الصد والمواجهة والإنهزام من النخب الفكرية الليبية والعربية اختار العزلة والانكماش، وانزوى بعيداً ينتظر وقوع الهزيمة الكارثة على ليبيا والوطن العربي والتي لم تتأخر كثيراً بعد رحيله، فشتت أحلامه ومزقت كيانه وكتبت الأحداث العربية من المحيط إلى الخليج بمداد أسود لم ينقشع لونه حتى الآن.

فهل حقاً انهزم صاحب الكيان؟

6 يناير 2023م


(1)  الصوت والصدى، عبدالله القويري، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، الطبعة الثانية، 1985م، ص 18

(2)  عندما تضِّج الأعماق، عبدالله القويري، منشورات دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، طرابلس، الطبعة الأولى،1972م، ص 10.‏

(3)  نفس المرجع السابق

(4)  ذلك العساس، عبدالله القويري، المشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، الطبعة الأولى 1984، ص22-23

مقالات ذات علاقة

فيروز والانقلابات العسكرية

المشرف العام

الأدب المسرحي في ليبيا

الصيد أبوديب

قصص كامل حسن المقهور: الشخصية الليبية في مواجهة العنف

عزة المقهور

اترك تعليق