مثلما تحتاج المجتمعات البشرية في المدن والقرى والأرياف الحديثة إلى بنى تحتية مادية قوية، تبنى عليها المؤسسات الاقتصادية والخدمات بأنواعها، وتقوم عليها هيكلية الدولة ونظام الحركة المجتمعية، لتعمل بكفاءة وفعالية؛ فإن متطلبات الحياة الحديثة لا تقوم أيضا ولا تستقيم كما ينبغي، إلا ببنية تحتية ثقافية ذات كفاءة..
ما هي هذه البنية التحتية الثقافية؟ وما عناصرها؟ وكيف يمكن أن تكون قوية مترابطة؟.. إنها باختصار، البنية الثقافية الأساسية التي يقوم عليها العقل الجمعي التقدمي للمجتمع.. العقل الذي ينتج ثقافة الرقي، والحضارة المتجددة.. وهي أيضا البنية التي توفر حلقة الوصل بين العقول المتفاعلة في المجتمع. توفر على الأقل، أدنى مستوى من لغة التفاهم العقلي وتواصل المدرَكات المختلفة بعضها ببعض.
إنها بعبارة أخرى، الوسط الثقافي المشترك الذي يمنح تقاربا مناسبا لتلاقح الأفكار وتمازجها من خلال عملية الحوار الثقافي المثمر. وفي غياب هذه البنية التحتية الثقافية لا يكون الحوار الثقافي بأي شكل كان، إلا عقيما. ولا تكون العقول إلا في حالة نشاز، وتنافر من بعضها البعض… والنتيجة لا عقل ولا ثقافة ولا تقدم ولا تجديد.
لكي نستطيع تحديد عناصر البنية التحتية الثقافية، علينا أن نعي جيدا ثلاث نقاط أساسية:
أولا: أن الثقافة غالبا ما تكون عكس المادة! فهى معنى وجوهر ذهني؛ فكر ونظر وتصور وحدس معرفي، وحقيقة ذاتية متأصلة في عمق المعنى الإنساني. بدونها لا قيمة للإتسان ولا يمكن له أن يبقى ويستمر.. وإنه حتى الأشياء المادية الملموسة التي تجسد شكلا من أشكال الثقافة، هي في حقيقتها منعكسات معنوية لها، فكرية أو جمالية، الخ…
ثانيا: أن ننظر للبنية التحتية، مادية أو ثقافية، بمنظورها العام.. لأنها متغيرة، بحسب التطور الحضاري والتقدم التكنولوجي للإنسان. مثلا، في البنية التحتية المادية، لدينا الكهرباء. ونحن لا نحناج إليها ككهرباء في حد ذاتها، وإنما كطاقة. وإذن، قد نغير هذه الطاقة مستقبلا لتصبح شكلا آخر من أشكال الطاقة مما نحتاجه في الزمن القادم، وهلم جرا بالنسبة لعناصر البنية التحتية المادية الأخرى، كالمواصلات والاتصالات والمياه.
ثالثا: أنها لا بد أن تنحصر في العناصر الفكرية المبدئية التي يمكن من خلالها تهيئة العقل للفهم، والتفكير المعاصر.
وإذن، فعناصر البنية التحتية الثقافية المطلوبة، لا بد أن تتجسد في أذهان الناس في شكل “القيم” و “المعايير” الحضارية، للعصر الذي نعيشه.. وهو الأمر الذي يجب على مؤسسات وأنظمة التربية والتعليم والإعلام والثقافة بعامة، أن تعمل على تأسيسها في أجيال المجتمع، وترسيخها، وتفعيلها في المناهج والمقررات والبرامج؛ بما ينشئ لديها آلية تفكير منطقي عقلاني متوازن، يحتكم إلى العلم، والفطرة الإنسانية السليمة. ويستبعد الشعوذة، ويرفض الخرافة والوهم، ويتجاوز التحجر الفكري.