المقالة

سالم الغائب الذي كان صديقي، وعاد بي إلى طفولتنا!

الروائي سالم الهنداوي
الكاتب والروائي سالم الهنداوي

لم أكن أعرف أن سالم الهنداوي كان صديقي.. فنحن لم نلتقِ إلّا مرة واحدة في بنغازي مطلع شتاء عام 1994 عند تشييع جنازة الراحل الكبير “الصادق النيهوم”..

خرجنا معاً من مقبرة الهواري في خطى حزينة صحبة الكاتب حسين مخلوف والأديب عبد الرسول العريبي رحمهما الله، وكذلك المؤرخ سالم الكبتي والروائي إبراهيم الكوني متعهما الله بالصحة والعافية.. 

في عزاء “الصادق” حيث بيت رجب النيهوم في سوق الحشيش، كانت تأخذنا الأحاديث هنا وهُناك، حدّثني عن غربة النيهوم والكتابة وحدّثته عن غربتي وتجربتي في الترجمة.. مع سالم الهنداوي اكتشفتُ رجلاً يتعامل مع اللغة كأنه مهندس كلمات… عرفتُ إلى جانب كتاباته في مجلات لندن وباريس أنه يترأس تحرير واحدة من أهم المجلات الليبية “المجال”، فطلب مني أن أرسل إليه ما لديّ، فنشر لي ما أعتز به من كتابات وترجمات، منها قصائد لإليوت وماشادو.

بعد عودتي إلى باريس فتحتُ مُغلّف الكُتب التي اقتنيتها من بنغازي، منها كِتاب “ليل الجدّات” حكايات لمحمد المسلاتي، وحكايات “المدينة المفتوحة” لمحمد العنيزي رحمه الله، وكان ثالثهما كِتاب يحمل عنوان “عودة الولد الصغير- حكايات من بنغازي”  لسالم الهنداوي، وهو كِتاب ممتع يحق أن نضعه في صنف الرواية… رواية لم تُكتَب على شكل الروايات التقليدية المُعتادة، بل على طريقة الشعر الإليوتي، حيث تتتابع الصور واحدة بعد الأخرى بشاعرية جمّة.

عندما قرأتُ تلك الصُّور المتتالية اشتعلت ذاكرتي في أحطاب الماضي وظننتُ أنني عشتُ تلك الصُّور في مع صاحبها الذي كتبها بعناية فائقة نابعة من صدق مشاعر وحنين، وتمنّيتُ في غبطتي أن أكون كاتبها لما بنفسي والهنداوي من ذاكرة مُشتَركة.. فحكايات “عودة الولد الصغير” تتحدّث عنّي وعنه في واحدٍ من أجمل وأعرق أحياء بنغازي القديمة “اخريبيش”.. ذلك الحي العتيق الذي  شهد ولادة شخصيّات بنغازي رائعة وأخرج للدنيا كتاباً وشعراء وفنّانين مُبدعين ورياضيين بارعين.

بصراحة لم أكن أعرف وقتها أن سالم الهنداوي هو ذاته “سالم زنقي” أول أصدقاء طفولتي، حيث عشنا معاً أجمل الذكريات في ذلك الحي بأهله الطيبين. كنا نسكن الشارع نفسه الذي عُرف وقتها بشارع ميلاد باله، بل وكُنّا متجاوريْن وبين عائلات عريقة تقاسمنا معها الخُبز والأحلام وماء الورّاد، ومع رفاق الطفولة عشنا الشقاوة والسهر تحت مصباح الشارع نلهو ونلعب البطش والتصاوير والطقيرة، ونتسامر بحكايات المدينة وشخصيّاتها الشعبية. ذكّرني سالم بسي فكرون البقّال، وبسي البغلوش وبسي بوغرارة، وبحوش الريشي الواسع وصاحبنا عبدالله، وبحوش باله وصاحبنا عبدالعزيز.. ولم ينس سي “ماراموه” الأسمر البصير الذي فقد ابنه الوحيد وقضى حياته يطوف الشوارع بحثاً عنه حتى مات.. كما ذكّرني بالبكّوش الذي كان كُلّما انتابته الحالة يطاردنا ويصرخ في أعقابنا في لهاث محموم حتى نختبئ منه مذعورين.. كما ذكّرني بالعجوز الطيبة الحاجة “المجرابية” قابلة الحي، وبسي بومدين السكّير العربيد الذي كُلّما دخل الشارع انفض الصبيان إلى بيوتهم في لمح بصر.. كُلّما ذكّرته بشخصية ذكّرني بأخرى، وكأننا نستعيد ذاكرتنا معاً لطفولتنا معاً، إلى حيث كُنّا نجلس على عتبة واحدة أمام البيت، ومقعد واحد في كُل فصولنا الدراسية.. ثم عاد بي إلى زقاقنا وكرّوسة “اعميرينه” وحماره الأبيض النحيل، وإلى آخر بيت في الزقاق حيث سكنت تلك العائلة السمراء القادمة من  “زرايب العبيد”، وكيف كان الفتى الأسمر الطويل وشقيقته يتجولان في الشوارع طوال النهار، وكيف كانا ودوديْن جداً وكانت لهما ضحكة مميّزة أحببناها مثلما أحببناهما.. وذكرتُ بدوري “سالم زنقي” صديقي الحميم رفيق طفولتي في مدرسة النهضة “توريللي” مطلع الستينيّات وشارع باله حيث وُلدنا ونشأنا ولعبنا تحت سقفٍ واحد، وكُنا سُعداء بما تجود به والدته مسعودة من كعك أو حبّات قلية أو خبز مغموس في الشاي لنركض بعدها في الشارع كالغزلان نسابق ظِلنا باتجاه الوسعاية حيث هرج الصبيان..

تذكّرتُ مع سالم ذلك الصديق المنسي الذي عاد للذاكرة فجأة بعد صداقتي الجديدة بالكاتب الكبير سالم الهنداوي الذي كتب “عودة الولد الصغير” لأعود معه إلى ذات الحي بجناحيّ غريب، ولأتذكّر معه كيف كانت تأخذنا المشاوير إلى أبعد من شوارعنا ونعودا فرحيْن إلى صبيان الشارع نحكي لهم عن مغامراتنا في ميدان البلدية وسوق الظلم ونكمل ألعابنا القديمة على التراب، وكيف كُنّا نصطاد طيور الإخليش على الشجر وننصب الفخاخ للعصافير في الخرابة التي كُنّا نسمّيها “الوسعاية” بمساحتها الترابية للعب الكورة والمطاردة.. ومن الشجى ذكّرني سالم بتلك الشتاءات القاسية وبذلك البرد الشديد الذي كان ينخر عظامنا في مدرسة “توريللي”، فذكّرته بانتظارنا الطويل لجرس الافطار كي تظفر بكوبي “سحلب” ساخن في قهوة “سي بركات”. 

عودة الولد الصغير.. للكاتب والروائي سالم الهنداوي
عودة الولد الصغير.. للكاتب والروائي سالم الهنداوي

في ذلك الحي العتيق في بنغازي العتيقة، عشنا أجمل أيام حياتنا الأولى بذكريات جميلة لا ننساها.. عشنا على حكايات جدّاتنا الطيِّبات وهُن يسرحن بخيالنا في أساطير بيضاء لننام مفتونين بتلك الحكايات وبأحلامنا البريئة، ونصحو في الصباح على صياح الديكة ونداء السمراوات بائعات الفول الصباحي.. كما كانت لعروض “الكاراكوز” في شهر رمضان وقع آخر في إثارة خيالنا بين الرسوم وقطعة القماش وضوء الشمعة وأصوات المشخصاتي الذي تلازم أذاننا حتى ننام.. وكانت متعتنا في دخولنا لسينما “الاستقلال” والاستمتاع بمشاهدة أفلام الكابوي وهرقل وبطولات ماشيستا في “المصارعون العشرة”.. في دردشات متتالية تذكّرت مع سالم كل ذلك وأنا في غربتي بعيداً عنه وعن بنغازي الطفولة والصبا.

كُنّا كبرنا أنا وسالم زنقي وتحصّلنا على الشهادة الابتدائية، تفرّقنا وتفرّق بقية الأصدقاء، فمنهم من ترك الدراسة وذهب للعمل، ومنهم من انتقلت عائلته من الحي فانتقل معها إلى مدرسة أخرى، وأنا ذهبتُ في العام التالي لمدرسة “الأمير” الإعدادية، وهناك فتحتُ عينيّ على حي برجوازي نظيف وواسع، حيث العمارات أكثر ارتفاعاً وحيث الفصول أقل رطوبة. ومنذ بداية ذلك العام الدراسي لم أعد أسمع بأخبار صديقي سالم زنقي.. وهنا توقّفت الذاكرة عن الغليان.. لعل سالم ذهب إلى مدرسة أخرى أو لعله ترك المدينة.

عرفتُ فيما بعد أن سالم لم يواصل تعليمه وأنه لم يدرس بالجامعات. ما حدث لسالم ذكّرني حينها بما قال النيهوم : “أنا أعرف جامعات العالم وأتمنّى أن تنهار جميعها”.. وما قال النيهوم ذكّرني بما فعل “إينشتاين” الرجل الذي فشل في الحصول على الشهادة الثانوية، لكن هذا لم يمنعه من إكمال دراسته الجامعية مع أغبياء سويسرا .. لكن ذلك موضوع آخر..!


-“سالم زنقي” هو الاسم الذي اشتهر به الأديب سالم الهنداوي في طفولته وعاش به في المدرسة والشارع والحي، وهو يعود لاسم زوج والدته “زنقي بوسيف الجنجان” الذي تربّى على يديه ونشأ في كنفه حتى كبر وشق حياته العصامية في الدروب”.

مقالات ذات علاقة

عطية محسن .. الصوت الأغنية في الفنّ الليبي

زياد العيساوي

مجزرة أبوسليم وإعدام متهمين

خالد الجربوعي

أوراق الصبــاح 4

فوزية بريون

اترك تعليق