سمر جابر | مصر
عبرت رواية” خبز على طاولة الخال ميلاد” للكاتب محمد النعاس، تلك الرواية التي حصلت علي جائزة البوكر العربية، عن مجتمع قرية “ميلاد الأسطي” المغلق بليبا، وبحثه الدائم عن تعريف الرجولة المثالي، وشخصيته المتأرجحة بين ضغط المجتمع وعاداته وتقاليده الذي يريده رجل بمرادفاته وبين إرادته ألا يصبح كذلك، تلك الضغوط التي جعلته حبيس عقله وأوهامه، ظنا منه أنه فشل أن يكون رجلا كما يري مجتمعه، ذلك المجتمع الذى يعرف الرجولة بالقسوة، والسب والضرب، وعدم إظهار العواطف، حتي نجد أن المقولة الشعبية” عيلة وخالها ميلاد”، تلك التى يعاير بها الرجل الذي لا يملك سلطة علي النساء اللائي يتبعه، تشاع عن ميلاد وسط قريته، فنجد أن حياته تشبه ذلك الخبز الذى يعجنه تتشكل من نفس المكونات” الدقيق والماء والخميرة والملح”، ولكن بخلط المكونات، نجد النتيجة مختلفة، مليئة بالتناقضات، فتجده بكل مخاوفه وهواجسه، ومهاجمة العادات والتقاليد له حتي شك في رجولته فلا يعي ما الذنب، فيجرب كل أشكال اللهو من شرب الحشيش وعزف الموسيقى، ومشاهدة الأفلام الجنسية المهربة سرا، وعلاقات مع عاهرات، ليحصل علي رجولته التي شككه الجميع في وجودها.
حيث قدم الكاتب محمد النعاس المجتمع الليبي السلطوي المتناقض المحكوم في تصرفاته بالعقد الجنسية، الذي يشبه تلك المجتمعات العربية المحكومة بالعادات والتقاليد، في ستة فصول بلغة ثرية محكمة، وسرد متماسك، يشوق القارئ للأحداث والربط بينهم، مع وصف رصين قائما علي الصورة، يجعلك تشاهد الأحداث وتتفاعل معها، وتتأثر بها، حملت الفصول أسماء معبرة عن شخوصها وربطها بالأماكن بداية من المخبز، المعسكر، دار غزالة، بيت العائلة، والبراكة والمطبخ في ٣٣٤ صفحة، مازجا بين الزمن الحاضر والماضي في عرض القصص بإتقان، وقصّ الحكايات المختلفة عن ميلاد وأهله وعمّه وابن عمّه والمعسكر، والتعليم، والمدام وغيرها، بفصول مرتبطة بتطور شخصية ميلاد وصناعة الخبز، ومحاولات ميلاد لاستعادة ذكورته، تارة باللجوء إلى العسكرية، وتارة بصفع زوجته، ولكنه يستعيد حقيقته المجردة في المخبز أو الكوشة.
يبدأ الكاتب بالمخبز، ذلك المكان الذى يجدد أحلام البطل، لحبه للخبز، الذي ورثه عن والده، فهو ميلاد الأسطي، ذلك الشاب الوحيد وسط أشقائه البنات الأربعة، ولد بأحد الأزقةالمطلقة علي الكاتدرائية، ثم انتقل هو وعائلته لقرية بئر حسين، في أرضهم الصالحة للزراعة والحياة والمخابز، تعلم إعداد الخبز من والده في الخامسة عشر من عمره، ثم بدأ من بعدها حبه للخبز ، بعدما أطلعه والده على أسرار صناعته التى حفظها من معلمة الطلياني، ومع رحيل الإيطاليين ورث والده المخبز، بدأ المخبز الإيطالي بالمخبوزات الفاخرة غالية الثمن، حتي تعثر المخبز، واستعان صاحبه بعمالة أجنبية من تونس ، وبعد وفاة والده، قام عمه بشراء حصتهم بالإجبار ، حتي عاد إلي إدارته للمخبز، وحبه للعجين والخبز بعد وفاة عمه.
سطوة الذكورة ومفاهيم المجتمع
السلطوي المتناقض
يحكي ميلاد عن علاقته بوالده الحاج مختار الذى كان عصبي الطباع، ولكنه لطيف مع العجين والخبز، يضع عليه توقيع الخباز بشفرة حلاقة حادة، فكان يعلمه الخبز وأسرار الفرن بأن السر يقع في القلب والعقل واليدين، ولكنه ينظر إليه بأنه ناقص الرجولة، مرددا ” سأصنع منك رجلا حتي لو كان ذلك أخر يوم في حياتي”، ويذكره أن البيت ليس للرجال، وذلك لمجالسته أخواته البنات، والتحدث معهم فى أمور النساء والمنزل، وذلك زاد من شعوره كونه غير مكتمل الرجولة الذى ظل يبحث عنها طول أحداث الرواية، متسائلا لماذا اهتمام الرجل بالقطن النسائي أمرا معيبا؟!، وزادت تلك الأوصاف أوهامه النفسية، وإقباله علي الانتحار، بعد انتشار النميمة عنه بأن أخواته هن الحاكمات في البيت وأن ميلاد لا يمكنه قول صباح الخير دون إذن منهن.
يتنقل بينا الكاتب فى سرد متماسك بسيط مقدم بطريقة مباشرة بين شخوص الراوية، تلك الشخصيات التي ترتبط بميلاد بداية من زوجته زينب تلك الفتاة ذات العقلية المنفتحة، الطموحة في عملها، والذي تبادل المسؤوليات معها بعد زواجهم وتولي هو أعمال المنزل، بينما تعمل حبيبته على إعالة البيت، وأبن عمه العبسي، المعروف بذكائه، وتلاعبه بالنظام حتي يحصل علي ما يريد، وسخريته من أصدقائه وانتقادهم باستمرار، الذي دائما ما يسخر منه وينقل له سخرية مجتمعة القروي التي تتعارض مع الرجولة كما يري المجتمع، كما ينقل له بأن زوجته تخونه وعليه أن يسبها ويضربها، ساخر من الرجال اللذين لا يتحكمون في زوجاتهم، وتلك الضغوط من والده وأبن عمه جعلته يدخل لعسكرية، ولكنه وجد بها العذاب والسب وما يقلل من شأنه كإنسان، ولا ينبي رجل كما أعتقد والده متسائلا هل العسكرية معيار الرجولة!؟ بجانب شخصيات الأم و الأب و الأخوات، و المدام و شخصيات أخرى ساهمت في تكوين شخصية ميلاد .
احتفظت الرواية بالتنوع بين الأماكن التي أبرزت معالمها وتفاصيلها المميزة، بداية من المخبز ، والمعسكر ، ودار غزالة ، وبيت العائلة، والبراكة، نهاية بالمطبخ، كلها أماكن تركت بصمتها في قلب ميلاد، وبدأت في مستهل كل فصل بأمثال شعبية توثق السطلة الذكورية على العقل الجمعي للمجتمعات العربية، حيث سرد الراوي علاقته بالمعسكر تحت شعار” تعيش يوم ديك ولا عشرة دجاجة” وذلك مقياس الرجولة في المعسكر، حيث عاني خلال تلك الفترة من المعاملة الصارمة، وتعامل قائد الجيش معه ومدى قسوته حتي خرج من المعسكر بعد تقرير حصل عليه بسبب أعيائه ، بعد محاولة هروبه التي فشلت، وبعدها تم القبض عليه وتعذيبه في الحبس الإنفرادي، حتي تفكيره في الانتحار وخروجه بعدها ومعه جانب مظلم من حياته لم ينساه، بل شكل جزء من كرهه للرجولة كما يسمونها.
يروى الكاتب بلسان الراوي العليم بطريقة أحادية الجانب ملقيا الضوء علي عادات وتقاليد مجتمعه، التي تبروز علاقة الرجل بأسرته وبيئة المحيطة، فيلقي الضوء علي طرق التربية والتنشئة، وتحديد معايير الذكورة و الأنوثة، فنجده متناقض ما بين ما المفروض عليه وما يحبه من الطبخ والخبز، وعلاقته بالمجتمع النسائي، فعلاقته قوية بأشقائه الأربعة حيث يساعدهم في صناعة حلوي الشعر ونزعه، ويعلم الكثير عن أنفسهم ومشاكلهم وطموحهم، وما يجمعهم من جلسات العشاء واحتساء القهوة وانتراع شعر أراجلهن، وصبغهن لإصبعة، بداية من أخته صالحة ومشكلتها مع شعرها التى ظلت تغيره طوال حياتها حتي قررت حلقه بالكامل، وحبها للتصوير والفساتين وطريقة حديثها وضحكها وطرحها للأسئلة، وحبها للخرافات والأحلام واعتزازها بكونها أمرأة مستقلة لم تقبل أن يحكمها رجل غير والدها، إلي أسماء أخته الصغيرة المدللة، سريعة الغضب، والاتهام للتقاليد التي تربت عليها، وأخواته صفاء وصباح، حتي علاقته بزوجته زينب وتحوله لاهتمامه بمنزله وشئونه وهمه الأكبر في الإنجاب، التي وترت علاقته بزوجته لعدم انجابهم، فيقول” “تمرّ بي مشاعر الأبوّة، وتشتدّ على صدري، في كلّ مرّةٍ يخرج فيها رغيفي ناضجًا وجميلًا يدعوني إلى قضمه، فأخاف من هذه الفكرة، وأهرب من الخبز أيّامًا حتّى يخفت الطلب الملحّ على عقلي”.
“ميلاد الأسطى” المهزوم النهائي
أمام معايير الرجولة في مجتمع
تحكمه تقاليد بالية
يبرز الراوي مساوئ المجتمع خلال سردة من الجهل والتحرش والاستعلاء، وقلة الوعي، والذكورية التي تسمح للشاب أن يمارس الرذيلة بينما يعاقب أخته بالضرب على حديثها مع الشباب، بأن المرأة تتعلق بأخلاق زوجها وأنه من يريبها بعد ابيها في مقوله” الفرس علي راكبها”، يحاول الجميع التقليل من رجولته ميلاد وطعنه بكونه ناقص الرجوله لا يتحكم في بيته واخوته وزوجته، مع سخرية العبسي من ميوعته، وعمه الذي يحتقره ولا يهتم بشأنهم، وزوجته القوية المستقلة الطموحة التى تريد ان تقتلع عن عادات وتقاليد المجتمع وعدم تمكنه من ترويضها كما يري المجتمع، وعمها الفنان المتحرر من عادات المجتمع وتأثيرها به، وقائده العسكري وتعامله الوحشي معه ليكون رجلا، الجميع فرض عليه الحياه السلطوية والمجتمع الأبوي، فهنا تتجلي مقولة الرجل لا يعيبه شئ، الرجل لا يبكي، الرجل ليس مكانه المنزل، جعله يجد نفسه ضحية حتي حاول الانتحار أكثر من مرة في مراحل حياته المختلفة، كنوع من الاضطراب النفسي والرغبة في الهروب من ضغوطات الحياة التي لا تتقبل حياته كما يحب، حتي أصبحت أكثر عبارة تتكرر على لسانه إثر تعرضه لكل أزمة : “ثم تبولت على نفسي!”
يواصل الراوي ربط حياته بالأمثال الشعبية التي تتحكم في طريقة حياتهم من أضرب القطوسة تتربي العروسة، حيث حرضه العبسي لضرب زوجته وسبها حتي بلا سبب ولكونه رجل ، وأن النساء يرعبنهن الحزام، باعتباره سلاح الرجل القاهر، كما يحرضه علي ضرب أخواته، مرددا ” الجلد يطهر الإنسان، حتي طالبه بإدارة المخبز بعد وفاة والده مقابل الثلث، حتي تعود لمجدها القديم، وقتها شعر بمكافأة الحياة له .
اقتباس
“مزاجي مرتبط بالخبز علي الدوام، لم ارتبط بأي شئ أخر في حياتي بأكملها كما فعلت معه، في أيام المعسكر كنت اتعذب لاستعادة عن أرغفتي في الكوشة، كنت سيئ المزاج لفقداني الرغبة في التواصل معه مجددا، الرغيف الكئيب كجثة قنفد، الرغيف الخارج من سكينة يدي يخرج هادئا، يمتص الخبز مشاعرها ويجسدها أمامي”.
يظهر لنا في الثلث الأخير من الرواية مريم صديقة زوجته زينب، وطفلها ذو العاملين بعد وفاة زوجها، حيث تشربت مبادئ الحرية لسفرها بين عواصم الدول، وكانت تذهب لزيارة زينب وميلاد في بيتهم وقريتهم وتجلس معهم، حتي طلبت منه أن يدربها علي صناعة الخبز ، وكيفية أدارة المنزل، وقتها انجذب إليها كرجل، وبدأ يدرك الاختلافات بينها وبين زوجته زينب، فزينب لا تكترث لقصصه المملة، والمدام تنصت باهتمام، تتحمس في إضفاء حبها للتفاصيل، كما تعتني بجسدها عكس زينب، حتي أصبح ينسي وجوده مع المدام عكس زينب، حتي شككته المدام هي الأخري ف خيانة زينب له، مما زاد المنحنى بينه وبين زوجته، وزاد من المأزق الذى يعيش به منذ سنوات، من مأزق رجولته الناقصة كما يراه الجميع، لمأزق البطالة بعد استقالته من محل البيتزا، وتركه المخبز بعد أخذ عمه نصيبهم، إلي جلوسه في المنزل والقيام بمهام البيت، وإعالة زوجته له، ثم خيانة زينب له مع مديرها كما ينتقل إلي مسامعه، كل ذلك جعله يشعر بأنه المهزوم النهائي أمام معايير الرجولة حتي قتل زوجته بعد اكتشافه خيانتها ، فى الوقت الذي كان يخونها فيه، ثم وضعها علي السرير ليزيل عنها شعر رجليها بالحلوي، ويعد لها الفطور كما يفعل دائما، فكانت تلك حبكة مفاجأة للنهاية عن ميلاد، ذلك الذي قرر الانتحار بعد صفع زوجته، ميلاد الذي لم يستطيع ابن عمّه ان يغيّره طوال فترة عمرهما، ميلاد الحساس الرقيق الذي حولته الأحداث للمخنث، الديوث، ميلاد الوديع وميلاد الخائن، مما يعني تحول سريع فى شخصيته، وذلك يثير التساؤلات بذهن القارئ.
يعيب النص بعض الحشو في الكلام والحكايات الكثيرة علي أنواع مختلفة من الخبز، بجانب الاهتمام بشخصية الراوى العليم شخصية ميلاد، بطل الحكاية مما جعلها تطغي علي باقي الشخصيات، وخاصة أن سرد الأحداث يتم من خلالها.
اقتباس
“نقيض الحبّ مختلفٌ تمامًا عن الكراهية، إنّه اللامبالاة، التبلّد، التباعد رغم العيش في مكان واحدٍ، ألّا تبتسم في وجه الآخر بعد أن كانت مجرّد رؤيتك إيّاه تمكّنك من الطيران، أن تنطق كلماتك اليوميّة «صباح الخير»، «نعم الغذاء جاهز»، و«قهوة؟» خالية من الدفء”.