“اتقول شايطات اليوم غَيّات يا عَلَم بادْ جيلهن”
وهل هناك بيتُ شِعرٍ فصيح ينافس أو يصل لعمق ومعنى هذا البيت (غنَّاوة العَلَمْ). الحقيقة وبكل تجرّد لا أعتقد.. نعم غنَّاوة العلم تكاد أن تكون قصيدة مكتملة الأركان في بيتٍ واحد..
ليش جبدت* الموضوع هذا؟ لا أدري غير أنني صْبَحْت اليوم وعلى لساني هذه الغنَّاوة وكانت متداولةً في بيتنا ونحبها. وكنا أيام الشباب نقيم مسابقات في بيت الطالبات على من تبدأ بغناوة عَلَم بآخر حرف من غنَّاوة تقولها إحدى المشارِكات، وهكذا نمضي وقتاً ظريفاً نسترجع فيه ما جمعنا من هذا الفن الأثير لدينا.
وأيضاً لرغبتي الشديدة في الكتابة عن كتاب الأستاذ أحمد يوسف عقيلة (غنَّاوة العَلَم عند المرأة) فالأستاذ أحمد -مشكوراً- جدّد فينا هذا العشق لهذا النوع من الفنون التي تتميز بها بلادنا في الجانب الشرقي منها بالتحديد، في مقدمته المهمة لهذ الكتاب يقول الأستاذ أحمد أنه تعمَّد هذا العنوان وليس (غنَّاوة المرأة) لأنه لا يصنِّف الأدب جندرياً وأن هذا الفن بالذات تم تصنيف بعض مواضيعه (أغاني الرحى) كمثال بسبب طبيعة العمل الذي تقوم به المرأة، ويقرر في أسى أن (بلادنا شاسعة كقارة إلّا أننا لا زلنا نُصِر على حصر المرأة في ركن ضيق من هذه القارة)، ويقول إن الرجل يمكنه أن يقول ما تقوله المرأة إذا مارس نفس العمل (الطحن بالرحى). وأورد مثالاً جميلاً لرجل استضاف شيخ الشهداء عمر المختار ورفاقه فأخذ يُعِدُّ لهم العشاء ويتغنى على الرحى:
(باشا ثمان ادوار اللي عشاه مازال في الرحى)
ويواصل أستاذنا في مقدمته لكتابه الجميل، بقلم العارِف العالِم الأديب، المثقف واسع الاطلاع، الخبير ببيئته، المُحِب لأهله، الفخور بانتمائه، والمتعاطف معنا في أجمل صور التعاطف وأذكاها أن القول بأن ألفاظاً تختص بالمرأة مثل (العين.. الغالي.. الغوال …. الخ) هو مجرد تعسف فاللغة في الأساس لا تخضع لهذا التصنيف العجيب …..
ويواصل بجمال (ولكن تبقى الأنوثة حاضرة في الإبداع …..) إلى آخر المقدمة الغنية بالمفاهيم الإنسانية الداعية إلى النظر بنفس العين، والإحساس بنفس القلب، والرؤية بنفس الفكر، في دعوة للنظر إلى الجمال والتمعُّن فيه بل والدعوة إليه في كل وقت بغض النظر عمن يكون صاحبه أو صاحبته.
الكتاب ممتع ويصعب توصيف جماله، فلغة أستاذنا العالية، ومعارفه الواسعة، واضحة وجلية، وتمنح لمن يقرأه سعادة مضاعفة، وتُكسبه رصيداً لا بأس به من اللغة المحكية الليبية بشروح مفصَّلة يعود فيها لمعاجم اللغة العربية للبحث في جذر هذه الكلمات ومدى فصاحتها.
وهذه بعض الغناوي التي اخترتها لأزيِّن بها هذا المقال في حب تراثنا الغَنّي وبلادنا الطيبة. مع تحياتي لهذه القامة الكبيرة وتمنياتي له بالصحة وبالمزيد من العطاء والإبداع الجميل.
وأبدأ بهذه الغناوة كمفتتح
1-نْريْد نذكروا لولاف
يا ناس صَلّوا عَ النبي (من أغاني الزفَّة)
2-منابا انعولوا فيه
جميع لَنبيا* حاضرينَه (من أغاني الفرح)
3- إنْ شا الله بعد الطّهُور
يَقْرا خَلِيل ويزُوْر النّبي
4-الْمال في الْمراح يبَات
عزيز هو اللي يالَى الجَسْد
والمعنى في هذه الغنّاوة أن الشاعرة وهي فتاة جميلة ترفض خطابها من الأثرياء وتتمسك بمن تحب رغم فقره، وفي باديتنا العزيزة يتحاور الشعراء رجالاً ونساءً حول موضوع الغلا والعشق وهذه بعض عينات مما أورده أستاذنا أحمد يوسف عقيلة في كتابه:
تقول الشاعرة
(لو كان له افْدا عزيز ما فراقَه لاعني)
فيرد عليها أحد الشُعراء:
(امْغير الغَلا ولعات عزيز له افْدا ناس واجدة)
وهكذا يستعرض كاتبنا هذه الدرر الثمينة التي يحويها تراثنا العريض المتسع الممتد لأجيال وأجيال ثم يعود للإبداع الأنثوي شديد الرقة والحياء قوي العاطفة الميَّال للمداراة أو ما نسميه بالرمزية.
تقول إحداهنّ:
مشيتوا بشوق العين
الله والنبي لا تْطَوّلوا
وتقول أخرى:
غَلاك لا تخاف عليه
مَصْيُون بين عَيني وهدبْها
ثم يفتح فصلاً كاملاً لمهاجاة الرحى، وما يدور في عقل المرأة أثناء عملها اليومي على آلة طحن الحبوب(الرحى) لتتمكن من إعداد طعام أسرتها.
يرصد لنا الأستاذ أحمد هذا الجمال في هذه النصوص القصيرة الآسرة التي تُبطِن أكثر مما تحكي فللقلب عواطف وفي الروح مواجد وللبدن مواجع يُفَسّر بعضها ويُخْفَى بعضها ويظل هذا النوع من البوح المبطّن ملفتاً ومذهلاً أيضاً.
تقول إحداهن:
(شعير في خشوم المزن منام الرحى جايبلها)
وتقول أخرى:
(ازْعَما يا كلَل لِيْدَيْن برَاد حَيل والّا م الرّحَى)
(شايلات حمل ثقيل يانا اكتوفي م الرحى)
وتضيف أخرى-تعاني غياب من تحب في ثنائية رائعة -:
نا يا رحى وين نطريك يخطر الغايب علينا ينهال الدمع ويجيك ويَبْقَى دقيقِك عَجِيْنة
وتقول أخرى:
يا رَيتنيِ جارة الشَّمْس
تشْرِق عَلَىْ واطي وعاليِ
وَيْن نَلْحَظ غواشيْكَم
يَزْهَى دلِيلي وبالِي
كم أذهلني هذا التوصيف: (جارة الشمس)!!
وثنائية أخرى أذهلتني:
لي عين تسكب على عين
غزير دمعها بدّداتَه
لو كان تسكب على طين
عود الشجر نبّتاته
وأختم بأنني لم أُحط بكل ماورد في هذا الكتاب من جمال لكثرة جماله وقوة محتواه الذي يقول فيه كاتبنا الكبير أنه استعان بوالدته وبسيدات من أسرته وأمهات لبعض أصدقائه في جمع هذه الجواهر الملونة بكل ألوان الحياة، وبالطبع لم أستطيع نشر معظم الغنّاوات التي تشكِّل تاريخ عزيز على قلوبنا لنساء هن أجمل النساء وأقواهن وأكثرهن عَطاءً وحكمةً وقدرة على تقديم حياتهن لمن عاصرهن أو جاء من بعدهن بطريقة أحببناها وأحببنا ذلك الزمن الطيب برجاله ونسائه.
شكراً من القلب لهذا الجهد الذي وصلنا بسهولة ويُسر أستاذ أحمد يوسف عقيلة.
*جْبَدت: فتحت السيرة