حكايات وذكريات: سيرة قلم 10
كان الثوب العربي هو اللباس الغالب في أغلب مدارسنا.. وكانت البدل الإفرنجية أو الرسمية كما يسميها البعض.. حلم أطفال ذلك الزمن الجميل.. ولذا.. وحينما عاد أخي سليمان متعه الله بدوام الصحة والعافية من بنغازي.. وقدم لي البدلة التي كنت أحلم بها.. كان فرحي بها كبيرا.. وسعادتي لا توصف.
من شدة فرحي بها.. لم أنم جيدا تلك الليلة.. فكان أن استيقظت متأخرا عن الموعد المعتاد.. فلبستها على عجل.. وخرجت من البيت مسرعا.. خوفا من التأخر عن طابور الصباح.
ورغم ذلك وصلت متـاخرا.. فأشار علي المدرس المكلف بالطابور.. بالوقوف مع بقية المتأخرين ريثما يتفرغ لمعاقبتنا.. وحينما أنتهت مراسم الطابور الصباحية وتفرغ لنا المدرس.. أشار علينا بعصاته بالوقف صفا واحدا.. ثم شرع في معاقبتنا.. الأول.. ثم الذي يليه.. ثم الذي يليه.. إلى أن وصل إلي.. فنظر إلى باستغراب شديد ثم قال: (لابس بدلة جديدة.. مبروك.. مبروك.. امسامحك.. نحيلة هالبدلة السمحة).
فرحت بكلامه كثيرا.. وذهبت مسرعا إلى الفصل.. وظلت كلماته الطيبة ترن في أذني إلى يومنا هذا.. وكان تصرفه ذاك بحق مؤثرا وجميلا.. ولم يسقط من ذاكرتي وتفكيري.
دخلت الفصل مسرعا ومسرورا.. ولم أكن أعلم أن التلاميذ الذين رأوا بدلتي الجديدة.. أثناء وقوفي خارج الطابور.. كانوا في انتظاري ليقدموا (النحيلة) التي تليق بي وبهم.. فما أسرع ما تكالبوا علي من كل جانب.. هذا يشدني وهذا يدفعني وهذا يضربني.. وهم يرددون: (اضرب الجديد قبل ايبيد).
ولم يكن ضربهم ذاك يؤلمني.. كان خوفي على بدلتي الجديدة أكثر ايلاما على نفسي.. وأكثر تأثيرا.
هل لاحظتم أيها الأعزاء:
ذلك المسلك التربوي الراقي والجميل الذي انتهجه المدرس معي.. والذي كان له الأثر الطيب في نفسي.. وظل جزءا من ذاكرتي وتفكري رغم مرور الأيام والسنين.. فرغم القسوة المطلوبة في بعض الأحيان كان هناك تعليم.. وكانت هناك تربية.. وهذا هو المغزى من سرد ونشر هذه الحكاية.
الصورة المرفقة:
ـــ وانهالت علي البدل الجديدة بعد تلك البدلة المباركة.. كهذه البدلة الجميلة التي تشاهدونها في الصورة المرفقة.. (هههههه).