المقالة

الكتابة حتى النفس الأخير

كامل عراب

كامل الهادي عراب (على طرف اللسان.. مقالات مجمعة)، الهيئة العامة للثقافة، طرابلس، 2020م.
كامل الهادي عراب (على طرف اللسان.. مقالات مجمعة)، الهيئة العامة للثقافة، طرابلس، 2020م.

منذ أيام رحل الشاعر الصديق على الفزاني وفاجأنا نعيه من المستشفى الذي كان يعالج فيه خارج الوطن خيمت سحابة من الحزن على أصدقائه ومحبيه فقد كان رحيله مبكرا، ولم تكن له مقدمات، داهمه المرض فجأة ولم يمهله طويلا ورحل. ما نزال نقرأ له يومياته التي واصل كتابتها ربما حتى اليوم الأخير قبل أن يغيبه الموت.

دأب في الفترة الأخيرة على الكتابة بغزارة وكان يسجل سيرته الذاتية بكثير من التفاصيل التي صادفته في الحياة داخل وخارج الوطن، فقرأنا في هذه الصفحات جوانب من حياة حافلة بالمعاناة وغنية بالمفارقات، وتعرفنا فيها على مغامراته عبر الحياة، فاكتشفنا أنه كان يخوض تجاربه بجسارة ويعاند رغم الصعوبات، وكان يتحدى أو ريما كان يستهين بالمصاعب من أجل اقتناص الخبرة وتنمية المعرفة وتوسيع الثقافة ولعل هذه التجربة العريضة التي تابعناها من خلال سيرته وذكرياته، ساهمت إلى حد كبير في تكوين ذاتي وتشكيل خصائص تنعكس في شعره الذي تمثل في حصاد وافر من الدواوين المطبوعة، والتي جمعت أغلب إنتاجه، وهذه إحدى ميزات الشاعر الراحل فلقد كان متمرسا بعملية النشر بكل ظروفها المعقدة وكان له أسلوبه في التغلب عليها بشكل ربما لا يقدر عليه الكثيرون من أبناء جيله، وبالرجوع إلى عدد دواوينه المنشورة والأعمال الكاملة لا تعتقد أن لديه شيئا يذكر لم ينشر إلا إذا كان مخطوطا جاهزا ينتظر اللحظة التي يخرج فيها للوجود بدون الحاجة الى جهد غيره ليلهث وراء جمع هذا الإنتاج، وعلى عكس ما قد يبدو في الظاهر ويعطي انطباعا سريعا بأنه شاعر فوضوي لا يكثرت كثيرا بالأشياء، فهو منظم في عملية النشر وتنسيق أعمالها لتكون جاهزة دائما للطباعة. 

الشاعر الليبي الراحل علي الفزاني

لقد كان آخر لقاء لي بالشاعر الراحل منذ سنتين تقريبا حيث كنا معا في رحلة ثقافية إلى قطر، وفي قطر تألق وشارك في أمسية شعرية في الجامعة أمام حشد من الطلاب العرب من جنسيات متعددة، إلى جانب الطلبة القطريين وقضينا أياما جميلة في الدوحة، أضفى عليها متعة خاصة ما أحاطنا به الاخوة القطريون من ترحيب، وما خصنا به الشاعر المصري المعروف حسن توفيق، الذي يعمل بالقسم الثقافي بصحيفة (الراية) القطرية من إعزاز، وكانت تربط بينه وبين الشاعر الراحل على الفزاني صداقة قديمة ومودة بالغة، وكانت أياما قليلة خاطفة أظهر فيها على الفزاني حبا دافقا للحياة وإقبالا على متعها بكل حماس وكان لا ينسى أبدا حتى وهو في غمرة هذا الاندفاع انشغاله بقضايا الثقافة، فما يكاد المجلس يلتئم ويبدأ الحديث يتشعب في شعاب شتى حتى تجد على الفزاني يفاجئك بطرح إحدى قضايا الثقافة الشائكة، وهكذا سرعان ما تجد نفسك مندمجا في هموم الثقافة وقضاياها، وتضيق أحيانا في أوقات التسلية من هذه الجدية التي يفرضها عليك، ولكنك تعيش متعة الحوار والجدل وتبادل الآراء، فيمتد الحدث ساعات طويلة وأنت لا تشعر بمرور الزمن الذي كنت تخاله سيمضي في اللهو أمور تافهة، وإذا بالجلسة مع على الفزاني تتحول دائما الى خلاف مثمر أو اتفاق يضيف إلى رصيد الحاضرين شيئا مجديا…

ولم أشعر أن الفزاني في تلك الرحلة كان يعاني من شيء، فقد كان موفور الصحة يتميز بالحيوية والنشاط، فلا يشكو ولا يتخلف عن مواعيد الفعاليات الأدبية التي جئنا من أجلها، ولا حفلات المجاملة التي أقيمت لنا، كان له حضوره المتميز والمتدفق مناكفا ومشاكسا عن طيبة نفس وروح مرحلة ونكتة حاضرة، لا تخونه البديهة كلما رأى شيئا يستحق التعليق وخاصة الأشياء الطريفة التي لا تخلو منها رحلة على هذا النحو الجماعي، بالاضافة إلى إنها كانت رحلة بين الجو والبحر والبر.. فهو جاء من بنغازي إلى طرابلس برا، وانضم إلينا في طرابلس حيث أخذنا الباخرة إلى مالطا، ومن مالطا بالجو إلى الدوحة مرورا بمحطة في الطريق، وهكذا في العودة أيضا. 

ومع أنها ليست الرحلة الوحيدة التي نلتقي فيها معا، إلا أن هذه الرحلة بالذات تركت في نفسي انطباعا حميما نحو على الفراني شاعرا ومثقفا وكاتبا، لا تفارقه روح الجدية والعناية بما يكتبه أو يبدعه للناس.. إنه يوحي لك دائما بأنه مسؤول عن كل كلمة يقولها فلا يجامل ولا يداهن، وهذا ما أكسبه احترام الكثيرين.. 

رحم الله على الفزاني الذي ترك فراغا ورحل، وترك علاقات ستعيش مع أصحابه وأصدقائه سنوات طويلة.

___________________

كامل الهادي عراب (على طرف اللسان.. مقالات مجمعة)، الهيئة العامة للثقافة، طرابلس، 2020م.

مقالات ذات علاقة

العبار العراب

عبدالله الزائدي

أوراق الخريف

سالم الكبتي

متَوفية بالكَامل

المشرف العام

اترك تعليق