حاوره / مهنّد سليمان (الطيوب)
منذ بواكير طفولته الأولى وجد نفسه محاطا ببيئة تحتضن القصص وتساهم في حبكتها وخطها الدرامي فوالده كما يقول يملك ذاكرة مميزة من القصص الهزلية والكوميديا السوداء وكذلك السياسية، ولعل هذه الأسباب بالإضافة لعدوى شغف القراءة شكلت عاملا حاسما جرَّ محمد النعّاس لميدان الكتابة فاستعار بالورقة والقلم ذاكرة تسجل ما يتساقط من خطوات الآخرين ليقول حكايته بفم المهمّش والمطحون والثري واللعين والطيب والمسلح والطفل المعزول عن العالم، فكتابة حكاية أو قصة تعني إعادة ترتيب بناء المجتمع والعالم في مرآة مؤلفها، وفي أعمال محمد النعّاس القصصية صدق جعله ينجو باكرا من فخ الوقوع في اجترار ثيمات النص القصصي والروائي الليبي بشكله التقليدي الجامد، فهو قد عقد العزم على التصالح مع سياقات واقعه الاجتماعي والسياسي فكان أبرز الأقلام الواعدة الذي أثبت انتماءه لأبناء جيله بشفافية سيكتشف فيها القارئ لأعماله أنه جزء أصيل من أوتاد حكايته، محمد النعّاس شق مشواره الإبداعي بانشاء مدونة على شبكة الإنترنت أسماها (خارج التغطية) فنشر باقة كبيرة ومتنوعة من القصص فضلا عن مساهماته الكتابية في مواقع ليبية وعربية أخرى كبلد الطيوب وخط 30 ورصيف 22، صدرت له مجموعة قصصية بعنوان (دم أزرق) عام 2019 ورواية بعنوان (خبز على طاولة الخال ميلاد) التي تنافس حاليا ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لعام 2022 .
مؤخرا تصدر عناوين الأخبار خبر وصول عملك الروائي الأول المعنون بـ(خبز على طاولة الخال ميلاد) للقائمة الطويلة لجائزة الرواية العربية البوكر، حدثنا عن الثيمة الرئيسة التي ارتكزت عليها في هذا العمل؟
الرواية كما يوحي عنوانها للعارف بالبيئة الليبية، هي رواية عن معنى الرجولة في الثقافة الشعبية في البلاد، تطرح مجموعة من التساؤلات حول هذا المعنى عن طريق شخصية “الخال ميلاد”، الرجل (الضد)، تستنطق قصته الشخصية وعلاقته مع المرأة في مجتمع قريته، علاقة مرسومة بتعريفات وإرشادات مسبوقة، تستعين الرواية بشخصية ميلاد الحسّاسة والمرتبطة بالخبز منذ طفولته، وكيف شكّل “الخبز” شخصيته وجعله “أليَن” من بقية أقرانه، ترافقه في مراحل حياته من سبعينيات القرن الماضي إلى بداية هذه الألفية، وكيف تطورت علاقته مع زوجته “زينب”، فتاة المدينة التي تربت بأفكار لا تشبه أفكار قريته.
للروائيين طقوس بعضها مألوف وبعضها غرائبي في التقاط شخوص أعمالهم، ما هي ظروف كتابتك لتجربة(خبز على طاولة الخال ميلاد)؟
في العادة أكتب بينما أسمع لموسيقى الروك أو الهيب هوب، هذا ما أفعله. أحضر قهوتي في الصباح، أبخّر المكتب برائحة “الوشق” ومن ثم أشعل سجائري وأختار قائمتي الموسيقية في العمل، في هذه الرواية، كان “الطقس” شبيهاً، إلا أنّه ولأنني كنت أملك كل الوقت نظراً لكتابتي لها في ظروف جائحة كوفيد في ٢٠٢٠، كنتُ أستيقظ باكراً، أعمل على عجينة لخبزٍ جديد، قد يمتد العمل عليها لست ساعات، أنتهي من الخبز، وأستمر في “طقسي”، هذه الرواية أيضاً، كتبتها على أصوات الحرب الليبية على العاصمة طرابلس، بعض فصولها كتبتها في صيفها الحارق بدون كهرباء إلا ما تبقى من شحن في جهاز الحاسوب، أذكر أحدَ الأيام قد احترقت جبهتي من الرطوبة والحرارة بينما لم أتوقف عن كتابة فصلٍ ما لعشر ساعات متواصلة، هذه الرواية أيضاً، شهدت تغيراً في ذوقي الموسيقي عند الكتابة، كنتُ أستمع لأحمد فكرون أو رشيد طه أو الشاب خالد.
عنوان الرواية مسكون بدلالة اجتماعية وثقافية متأصلة المعنى بالمجتمع المحلي، لماذا اخترت هذا العنوان تحديدا؟
نعم، هو كذلك، اخترته لسببيْن، الأول أنّها هذا ما تحكيه الرواية، قصة هذه الدلالة الاجتماعية، يمكن قراءة مقال ” الخال ميلاد” الذي نشرته عبر موقع رصيف ٢٢، للتعرف أكثر عن سبب اختيار هذا العنوان بالذات، السبب الثاني هو ربما تسويقي.
شغفك بفعل الكتابة يكاد يتحول إلى هوس بأبجدية اللغة ورائحة الحروف، ما هو سر كل هذا الاندفاع المحموم نحو الكتابة؟
الكتابة بالنسبة لي هي حرفة، كالنجّار عندما يعمل على قطعة أثاث، هكذا أعاملها، وليكون النجّار متقناً لعمله عليه أن يعشقه أولاً، أن يطوّر تقنيات تعامله مع قطعة الأثاث التي أمامه، أن يصقل فيها روحه، هذا منطقياً.
عاطفياً، أنا أعود لأسرة تحب القصص – ربما مجتمع يعشق القصص أيضاً-، والدي مثلاً، له ذاكرة مميزة من القصص الكوميدية والكوميدية السوداء والسياسية، تربيت على حكاياته وحكايات عمّي عن مغامراته مع “الغولة” و”الجن”، كما أنّ عائلتنا تملك قصة شفوية تعد من أقدم القصص الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في بلدتي، لهذا، من الطبيعي أن أجد لنفسي مكانا في هذا المجتمع الهائم بالقصص، ولأنني، لستُ مثلهم، لا أعرف كيف أتحدث، اخترتُ وسيلة أخرى لقص الحكايات والقصص، وسيلة أجد نفسي مطمئنا معها، وبهذا وجدت نفسي كاتباً.
فلسفياً، بالنسبة لي على الأقل، الكتابة فعل تخليد، أرشفة، استكشاف وفعل متعلق بالأسئلة، الكتابة القصصية بالذات. نحن البشر، لا نساوي شيئاً بدون “القصص”، حياتنا، تطورنا وملاحمنا تتمحور حولها، خيالنا الجامح يجعلنا دائما نفكر فيما قد يكون.
الأمكنة في مجموعتك القصصية (دم أزرق) تحتل حيّز ملحوظا هل الكتابة عن المكان تساعدك على الشعور بالانتماء؟
بالطبيعة، نحن رهن أمكنتنا التي عشنا فيها وعاشت فينا، نحن صنعها، نتعلق بالأمكنة بلا وعي.
كلمة أخيرة:
لتكن كلمتيْن.
الأولى، تحيّة لموقع بلد الطيوب وللشاعر رامز النويصري، ذلك الموقع الذي كان أول موقع يحتضنني أيام لا أحد في هذه البلاد كان يعرف محمد النعاس.
الثانية، أرجو أن يكون ما أكتبه -وما كتبته- ذا قيمة لأبناء وبنات بلدي، سواءً الآن، أو في المستقبل. وأن يساعد في التعريف بليبيا، ثقافتها وأدبها وناسها، هذه البلد التي تستحق أن يعرفها العالم.