سيرة

للـتاريخ فـقـط (3)

يشرع موقع بلد الطيوب في نشر سلسلة (للتاريخ فقط) للشاعر “عبدالحميد بطاو“، والتي يروي فيها الكثير من الأحداث التاريخية والسياسية.

الشاعر عبدالحميد بطاو في شبابه

الحلقـة: 3/ انكشاف الضـّعف ومبالغات الإعلام العربي

كان شهر مايو 1967م شهر الاستعداد والتأهب لأحـداث خطيرة ومصيرية ستمر على الوطن العربي، وكنا جميعـًا نتابع القوات المسلحة المصرية بحماس وهى تستعرض الدبابات الضخمة المتطورة المتخصصة في قتال الصحراء، وطائرات السوخوي التي تقاتل حتى في عتمة الليل، والصواريخ الموجهة (الناصر) و (الظافر) وغير ذلك من العتاد والسلاح المتطور الذي قدمته روسيا لـ”عبدالناصر” بسخاء وكرم لتورطه عن عمد في حرب كانت نتيجتها محسومة مسبقـًا، وكان “عبدالناصر” رحمه الله، قد فقد خط الرجعة في إعلان استعداده لمواجهة إسرائيل من خلال مناورات إعلامية استفزازية قام بها بصورة متتالية، فأغلق مضيق (باب المندب) في وجه الملاحة الإسرائيلية ممـا اعتبرته إسرائيل بمثابة إعلان حرب عليها، وكانت كل الظروف تؤكد على أن هناك حرب ستقوم قريبـة بين مصر واسرائيل، خاصة والعرب عامة، وأكد “عبدالناصر” في خطاب متوتر له في بداية شهر يونيو 1967م أن الحرب قادمة و ستكون خلال هذا الأسبوع، بل أكد وبيقين أنها ستكون يوم الاثنين 5 يونيو1967م. وفعلا في ضحى ذلك اليوم المشؤوم، كان مذيع صوت العرب الشهير (أحمد سعيد) يصرخ بهستيريا مرعبه (وغير مقنعه): أن وقعتى في الفخ يا إسرائيل، كبروا وهللوا يا عرب، فأن دفاعات القوات الجوية المصرية الباسلة أسقطت مئات الطائرات العدوة المغيرة في ذلك اليوم على مصر العروبــة قبل ان تحقـق أهدافها!!

ولم نكن نصدق، وكنـا نضع أيدينا على قلوبنا ونحن نستمع إلى إذاعة اسرائيل وهى تعلن بتبجح أن طائراتها ونسور جوها نجحوا في تدمير كل طائرات السلاح الجوي المصري وهى على الأرض لم تبرح مطاراتها، وتدخلت سوريا والاردن في الحرب ولكن بعد فوات الأوان، فقد أصبح جنود الجيش المصري يركضون حفاة على لهيب رمل سيناء المحرق، وهم يضعون أيديهم فوق رؤوسهم بمذلة قاسية بعد أن غادروا دباباتهم المحترقة ليقودهم الجيش الإسرائيلي أسرى، واتضحت النكسة بكل ما في وجهها من بشاعة في خطاب “عبدالناصر الصادق” الصريح الحزين في 9 يونيو 1967م، يوم أن أعلن استقالته وحمل نفسه المسؤولية كاملة.

كان مساء أسودًا ذلك المساء وليلة ليلاء لم ينم فيها كل العرب من محيطهم إلى خليجهم، وخرج الشعب المصري كله يصرخ لـ”عبدالناصر” بصدق وحرارة: لا تـتركنا سنقاوم سنقاوم.. بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي.. لن نستسلم سنقاوم سنقاوم.. لا تتركنا يا أبوخـالد.

ومثلما الشعب المصري لم يرضخ لليأس، وملأت الجماهير الغاضبة شوارع القاهرة وكل شوارع المدن المصرية، كانت حركة القوميين العرب تحاول أن ترتفع على نزاعاتها وخلافاتها لكى تقف وقفة جادة ومتحمسة إلى جانب الأمة العربية من محيطها إلى خليجها، واتصلوا بي وطلبوا منى مساعدتهم في توزيع المناشير في المنطقة الشعبية التي أقيم بها بين بيوت الأكشاك والصفيح المقامة في البراح المقابل لمصرف الجمهورية حاليًا، وفي كل أحياء الجبيلة، وفعلا أخذت دوري معهم وكنت أوزع المناشير التي تطالب الجماهير العربية بالصمود والثورة ورفض الهزيمة والوقوف مع مصر عبدالناصر في هذه النكسة التي أصابت الوطن العربي كله بالإحباط والخذلان، كان جرح النكسة رهيبًا ومؤلمًا بكل تفاصيله، وفرضت السلطات الليبية حالة الطوارئ طوال شهر يونيو ورغم هذا كنت أغامر وأخرج لأوزع المناشر في مفارق الطرق آخر الليل.

من المفارقات غير المنطقية، أنني اضطررت للزواج في أول أيام يوليو1967م، وكنت أحاول أن افتعل الفرح والبهجة ولكن دون جدوى، وكان الجو في ليبيا مشحوناً بالخوف والترقب وتوقع أن هناك أشياء رهيبة قادمة ولاشك، وفي يوم 30 يوليو، أي بعد زواجي بشهر، وبينما كنت أقف مع والدى في دكانه المتواضع في تلك الظهيرة، فوجئت برجل البحث الجنائي الشهير (محمد بوالمشيطية) يشير لي من بعيد لكى لا يراه والدى أن تعال وذهبت له لأجد معه ضابطـًا آخر من ضباط البحث يقود سيارة (فولكس) حمراء، وحينما وقفت بينهما همس لي “بوالمشيطية” بحرج:

– هل هناك شخص آخر غيرك بنفس اسمك في عائلة بطاو؟

فقلت له: لا طبعًا!!

فطلب منى أن أرافقهم لأن هناك شخصيـة بوليسية من مباحث بنغازي، جاءت خصيصًا وتريد أن تلتقى بي لديهم في إدارة البحث الجنائي بمركز شرطة درنة.

وحشرت نفسى في الكرسي الخلفي بسيارة الفولكس وتحركوا بي نحو المركز، وصعدوا بي للدور الثايى حيث رئاسة إدارة المباحث الجنائية، وطلبوا منى الدخول إلى مكتب هناك، وجدت فيه رجلا وقورًا في الخمسين من عمره يجلس بجانبه شاب يكتب في ورق أمامه وصافحني الرجل وهو يقدم لي نفسه قائلا:

– أنا عبدالحميد على، نائب حكمدار المباحث الجنائية بنغازي، ولدى أمر بالقبض عليك وتفتيش بيتك.

كانت مفاجأة لم أحسب لها أي حساب، ولم أكـن أتصور أنها قد تحدث، وتذكرت أيام أن كنت أترك سريري الدافئ وأخرج متسللا في العتمة لأوزع المناشير السياسية الغاضبة في الليالي الماضية في مفارق الطرق والشوارع. ولكنني وجدت أن لابد مما ليس منه بد، وكان علىّ مواجهة قدري فهذه سنـّة الحياة ودائمـًا يقولون (وعند صـفاء اللـّيل قـد يحـدث الكــدر).

دعوني أتوقف هنا، لكى نتحدث في الحلقة الرابعة عن ظروف القبض والتفـتيش، ووضع الوالد خلال تلك الساعات الحرجة القلقة، ثم التنقل بعد القبض علينا من توقيف إلى توقيف حتى طرابلس.

فإلى الحلقة الرابعة…

مقالات ذات علاقة

المؤرخ أ. علي الصادق حُسنين

أسماء الأسطى

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (42)

حواء القمودي

سيرة مختصرة جدا

محمد دربي

اترك تعليق