المقالة

الفنان وهوية الفن

سلسلة: الصورة والخيال

من أعمال التشكيلي سالم التميمي
من أعمال التشكيلي سالم التميمي

6 – الفنان وهوية الفن 

إن موضوع السؤال المطروح الذي يقود في اغلب الأحيان إلى محاولة التفسير الرمزي للفن، أو للعمل الفني هو جوهر الفن وطبيعته وماهيته، والسؤال عادة هو “ما هو هذا الشيء الذي يجعل من شيء ما عملا فنيا ؟”. وفي تاريخ العالم منذ البداية، عشرات ومئات المفكرين والفنانين والشعراء والشيوخ، الخ. حاولوا الإجابة على هذا السؤال كل بطريقته وحسب معتقداته وإمكانياته الشخصية. وفي النهاية، كانت كل الاجابات لها نفس الدرجة من الحقيقة والشرعية رغم إختلاف الإجابات وتناقضها، نظرا لعدم وجود منهج او طريقة واضحة للاجابة، أو حتى لطرح مثل هذه الاسئلة. هيجل في القرن التاسع عشر هو أول من ثبّت الفنون في خمسة فروع أساسية حسب شرطين أساسيين: إمكانية التعبير، والوجود المادي للعمل الفني. اول الفنون حسب هيجل هو الفن المعماري L’Architecture، ثم النحت Sculpture، ثم الفنون البصرية Les ArtsVisuels مثل الرسم والتشكيل اللوني، وتأتي بعد ذلك الفنون الموسيقية La Musique ثم الأدب La Litterature عموما من شعر ورواية وقصة. وفي بداية القرن العشرين أضيفت إلى هذه القائمة فنون جديدة كالمسرح والرقص والسيرك تحت إسم فنون العرض أو المسرح  Les Arts de La Scène. أما ما يعرف اليوم بالفن السابع المتعلق بالسينما فلم يضف إلى قائمة الفنون إلا في العشرينات من القرن الماضي. ويرجع ذلك إلى الناقد الإيطالي “كانودو” Ricchotto Canudo والذي نشر بيانا عن الفنون السبعة في سنة ١٩٢٣ Arts Manifeste des Sept. وأضيفت مؤخرا أنشطة أخرى إلى هذه القائمة والتي أصبحت تضم عشرة فنون بدلا من الخمسة الأساسية التي حددها هيجل. وهذه الفنون الجديدة هي الإعلام Les Médias، والأشرطة المرسومة La bande Dessinée وألعاب الفيديو Jeu Vidéo. بطبيعة الحال يمكن إضافة أنشطة جديدة لهذه الفنون مثل الدعاية وفنون الطبخ أو الرياضة إلخ. ظاهرة الفن إذا تزداد إتساعا يوما بعد يوم دون أن نعرف تحديدا ما هو الفرق بين أغنية ركيكة وقطعة موسيقية لفاغنر، ولا بين مسرحية تلفزيونية فكاهية وبين مسرحية لبيكيت أو يونيسكو، فالكل يدخل ضمن المقولة العامة “الفن” والعالم الفني.  
الشاعر ماياكوفسكي Vladimir Maïakovski يقول في احدى قصائده بأنه لا يحب الزهور، لأنه ليس هو الذي خلقها. فالشاعر الخلاق ـ على ما يبدوـ لايحب الطبيعة، لأن الطبيعة ـ حتى عند أرسطوـ كانت تقابل، أو تضاد الفن. لأن الطبيعة هي الشيء الذي يوجد بداخله مبدأ الحركة ضمنيا، فالشجرة تنمو بذاتها والزهرة تتفتق دون حاجة إلى أي شيء خارج الطبيعة، أما الفن فهو الشيء المخلوق الذي يكون فيه مبدأ الحركة من الخارج وليس من الذات. غير انه في العصر الحديث، اصبحت كلمة فن  Art ليست مضادة للطبيعة، وانما للصناعة والتقنية Technique، أي للآلية الخاضعة لقوانين المادة الصرفة. ففكرة الخلق إذاً، لم تعد كافية لتعريف العمل الفني، سواء كان لوحة، او قطعة فنية، اوشعرية او موسيقية أو مسرحية او رواية الخ. ذلك ان الانسان الذي يخلق كرسيا او طاولة او سيارة او صاروخا أو أي شيء آخر من هذا النوع، فإنه لن يكون بذلك قد خلق عملا فنيا، انه لن يكون اكثر من خباز او مهندس او عامل، مهما كان هذا العمل معبرا عن نفسية هذا الانسان او مناسبا له ـ رغم علمنا بعدم امكانية هذا التعبير في العالم الرسمالي ـ ففكرة الخلق أو الابداع لا يمكن لوحدها ان تكون كافية لتعريف العمل الفني وتحديد هويته في عالم تزداد فيه الإختراعات والإبتكارات التكنولوجية بسرعة مذهلة.

وهناك ايضا الفكرة السائدة في هذا المجال، بأن العمل الفني لا يجب ان تكون له غاية محددة ومفيدة عمليا Inutile. بمعنى ان اللوحة ليس لها وظيفة اخرى سوى كونها لوحة، وهي فكرة الفن من أجل الفن، والتي روج لها العديد من الفنانين والأدباء. غير انه من الصعب اليوم تقبل هذه الفكرة، ونسيان ان العمل الفني له وظيفة وفائدة وغاية اقتصادية واجتماعية وسياسية، باعتبار العمل الفني انتاجا وبضاعة وسلعة تجارية، لا تختلف عن الطماطم، أو البصل، لها اسواقها واسعارها وسماسرتها، وتخضع لقانون العرض والطلب، وغيره من قوانين السوق، رغم أنها تخص النخبة الثقافية والإقتصادية في المجتمع، أي أنها بضاعة أو منتج ترفي وزائد وغير ضروري Produit de Luxe. الفن اليوم بجميع أشكاله وأنواعه يشكل صناعة من أكبر الصناعات وتعتبر مصدرا للدخل للدول الأوربية، كتجارة السلاح وبيع السيارات.

كما انه يمكن ان نذكر ان الاشباع النفسي او الروحي للفنان ذاته، ولمشاهد اللوحة، حيث ان الاحاسيس الجمالية، والمتعة البصرية ـ رغم خضوعها لقوانين الذاتية، وعدم قدرتنا على قياسها وتقييمها ـ فان وجودها ليس محلا للشك، مما دفع بعض الفلاسفة والنقاد منذ القدم، إلى ايجاد العلاقة بين الفن والجمال ـ فالفن كل ما هو جميل، ويبعث في الانسان الشعور بهذا الجمال ـ غير ان هذا المقياس لم يعد كافيا اليوم، حتى لوافترضنا كفايته في الماضي. حيث ان عنصر الجمال قد اختلط بكافة تفاصيل المنتوجات الصناعية، وحتى بالنظام السياسي والاجتماعي ذاته. كل الاشياء والادوات التي تحيط بنا في جميع اركان الحياة المعاصرة، من السيارة إلى الملابس إلى اجهزة الاتصالات المختلفة، من فرشة الاسنان وعلبة السجائر إلى الملابس والمواد المعلبة، يتم التفكير فيه بطريقة جمالية معينة، لها قوانينها وموضاتها المختلفة حسب الزمان والمكان، بالاضافة إلى ان فكرة المتعة الجمالية تنطبق أيضا على الطبيعة ـ المناظر الجميلة ـ مثل البحر والجبل ومختلف الالوان والاشكال التي نجدها في الطبيعة، والتي تثير فينا نفس الاحساس بالروعة او الرهبة او الدهشة الخ. وهو ماعبر عنه شيلينغ  Schelling في كتابه فلسفة الفن بقوله  “الله وحده هو الفنان”.

وهناك من يرى أن الخاصية الأساسية للفنون عموما هي قدرتها على التعبير الذاتي من ناحية، وقدرتها على التعبير عن الوعي الجماعي لمجتمع ما وتقديم نظرة للعالم وللوجود تختلف عما هو مألوف وسائد في هذه المجتمعات. ولكننا نعرف أن هذه الخاصية أو المهمة قد تقوم بها الفلسفة أو السياسة أو الأنثروبولجيا، وليست حكرا على الفنون، هذا إذا أفترضنا صحة هذه المقدمة. صحيح أن الفن يمكن أن يلعب دورا مهما في نشر فكرة أو أيدليوجية، كما رأينا فيما يسمى بالواقعية الإشتراكية في بداية الثورة الماركسية اللينينية ثم الستالينية، غير القيام بهذه المهمة ليست حكرا على الفن وحده. بالإضافة إلى عدم فعالية الفن على الدفاع عن فكرة ما أو عن إيدلوجية ما. لوحة غرنيكا التي ذكرناها سابقا رسمها بيكاسو للتنديد بالديكتاتورية والتنديد بالقصف الجوي بالطائرات لمدينة غرنيكا، غير أن هذه اللوحة لم تنقذ أحدا من الموت، ولم تقنع ولو شخصا واحدا للدخول في المقاومة ضد فرانكو. القيمة الفنيه وهوية اللوحة وجوهرها تتعالى عن أية وظيفة مهما كانت نبيلة المقصد. إنها لوحة مهمة لأسباب أخرى لا علاقة لها بوظيفتها الإيديولوجية أو الدعائية.

ماهي اذا هذه الخاصية العجيبة التي تجعل من عمل انساني ما، عملا فنيا. وتضفي عليه هذه الصفة السحرية شبه المقدسة التي تبعث في نفس المشاهد او السامع الاحساس بانه امام ظاهرة فنية؟

مقالات ذات علاقة

نشرات تقليدية

نعيمة العجيلي

الانتخابات الليبية.. الصعوبات والاحتمالات

صالح السنوسي

عشرون سنة من العمل المضني…

المشرف العام

اترك تعليق