طيوب المراجعات

إقلاع وهبوط – سيرة طبيب من رأس بيروت

كتاب اقلاع وهبوط: سيرة طبيب من رأس بيروت
كتاب اقلاع وهبوط: سيرة طبيب من رأس بيروت

 
قادتني الصدفة والأرق لكتاب “اقلاع وهبوط: سيرة طبيب من رأس بيروت ” للدكتور اللبناني منير شماعة، وفيه يروي قصة حياته ويبرر شماعة رغبته في كتابة سيرته الشخصية بالقول :” عندما يصل الإنسان إلى عمر معين، وتبدأ رحلته الأخيرة ينتابه القلق، لأنه سيذهب بلا طنة ورنة، فيعمل على كتابة مسيرته، آملا أن يترك بصمة في أذهان الناس”، وقد شبه حياته بالمراحل التي تمر بها الطائرة من اقلاع وتحليق وهبوط جاعلا منها عنوان لكتابه.
 
يتضمن عدة فصول تناول فيها الطفولة والدراسة في منطقة رأس بيروت وسفره للدراسة في الولايات المتحدة الامريكية في الفترة مابين 1955- 1957، وآراءه عن الحياة والعلاقات بين الجنسين والمناخ العلمي داخل المؤسسات التعليمية الامريكية و المستشفيات هناك، ثم فترة عمله في المملكة السعودية لفترتان متباعدتان يسجل انطباعاته عن السعوديين، كما يتناول تجربة الخطف خلال الحرب الأهلية  ومن خلالها نتعرف على آراءه في الفكر والسياسة والمواطنة والعروبة والطائفية، و لم يكن الدكتور منير صاحب رؤية انعزالية رغم مامر به خلال الحرب الاهلية من تجارب لعل اشدها قسوة اختطافه من احد الجهات قبل أن يُطلق سراحه بواسطة السيد محمدحسين فضل الله، إذ ظل يرفض منير شماعة مغادرة بيروت حتى في أشرس أيام القتال خلال الحرب الاهلية، ولم يجد في كل العروض التي قدمت له من ملوك عرب ومستشفيات امريكية واوربية ما يدفعه للرحيل عن بيروت.
 
تميز الكتاب بلغة بسيطة سلسة لا تخلو من عمق المعني، يأسرك صدق الكاتب وأمانته هو يتناول تجاربه وافكاره وما طرأ عليها من تغيير وتحول فكري ونفسي دون استعلاء، تجعل قراءته أقرب للدردشة مع صاحب الكتاب مع وضع علامات على بعض الأجزاء في الكتاب للعودة والتأمل في تجربة الدكتور شماعة.
****
ولد منير شماعة  في العام 1926 في منطقة رأس بيروت في أسرة مكون من ثلاث صبيان و ثلاث بنات كان منير أصغرهم، بدأ دراسته في الخامسة من عمره في الحضانة عند السيدة أمينة المقدسي، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية التابعة للجامعة الأمريكية في سنة 1935 حيث يذكر عدد من زملاءه من الأطفال العرب ممن أصبحت لهم مكانتهم في بلدانهم منهم الشيخ عبدالله الغانم وزياد الشواف وجاسم فخرو ويقول :” بالرغم التفاوت المادي الكبير مابيني وبينهم والذى يظهر في ملابسي فإن صداقتنا كانت حميمة جدا”.
 
أكمل المرحلة الابتدائية في سنة 1939 ودخل بالمدرسة الاستعدادية، وفي ذلك الصيف اندلعت الحرب العالمية الثانية التي وجد فيها منير لذة كبيرة في متابعة اخبارها وتفحص الخرائط الجغرافية، كذلك فرصة البقاء في بيروت بدل قضاء الصيف في الجبل، ويقول عن هذه الفترة من حياته :” من أهم ما اختبرته في الحرب العالمية الثانية بروز ظاهرة الطائفية للمرة الأولي في تفكيري. فعائلتنا بالرغم من أنها مسيحية لم تكن يوما تعير ممارسة الطقوس الدينية اهتماماً…وكان أول اختبار لى مع الطائفية في المدرسة إبان الحرب العالمية الثانية حيث انقسم الطلاب إلى قسمين. فالمسلمون كانوا مع المحور، أى ألمانيا وإيطاليا، والمسيحيون كانوا مع الحلفاء. وبالرغم كم صداقات المسلمين والمسيحيين الحميمة، فإن الاختلافات كانت صاخبة عندما تبحث مسيرة المعارك….واسترعت تلك الظاهرة انتباهي ولم أستطع فهمها آنذاك. فالطائفية بالنسبة لى لم تكن في الحسبان، وبالأخص في رأس بيروت التي كانت المثل الأعلي للانصهار الوطني.. ولا بد من القول إن الاختلافات، بالرغم من هذا الانقسام الطائفي، لم تتعد التحيز إلى هذه القوة الخارجية أو تلك. فالمسلم والمسيحي في ذلك الوقت كانا متفقين على كل الأمور التي تتعلق بوطنهم، والصداقات الحميمة بين العائلات المسيحية والعائلات المسلمة لم تعكرها أى شائبة “.
 
كان للحرب العالمية الثانية تأثير كبير على المستوي المعيشي للأسرة منير، فقد توفي والده مع بداية الحرب بنوبة قلبية وهو في عقده الخامس، فأصبحت والدته هي المسؤولة عن ادارة مطعهم الصغير وتولي زمام الأسرة لايصالهم لبر الآمان. 
 
عمل منير كمحاسب و جرسون في مطعم والده وكان استرعي انتباهه عند التدقيق في دفاتر الزبائن أن الأغلبية الساحقة تطلب الوجبات التي لا يزيد سعرها على الثمانية عشر قرشا، باستثناء عدد قليل جدا من الزبائن كانوا ينفقون خمسة وعشرين قرشا على الوجبة الواحدة  وهو مبلغ باهض مقارنة بأسعار تلك الفترة، فسأل والدته التي أجابته بأن كل هؤلاء من الفلسطينيين الذين كانوا أغني الشعوب العربية ـ يأتون إلى لبنان البلد الرخيص ويصرفون كل جنيه فلسطيني بعشر ليرات سورية، فينفقون المال بلا حساب.
 
يشير منير للحياة الأسرية التي عشاها رغم الفقر واليتم والحرمان، إلا أن علاقة والديه كانت علاقة حب متينة مبنية على الاحترام، وكانت امه من أوائل النساء اللواتي تخرجن من المدرسة الأمريكية آنذاك ما جعلها حريصة على ان يكمل منير تعليمه الجامعي رغم الظروف الاقتصادية التي مروا بها بعد وفاة الأب.
 
دخل الجامعة سنة 1943 وهناك بدأ يدرك الفروق المادية والاجتماعية في مجتمع الجامعة الأمريكية، وهنا يحكي منير عن جوانب لا يسهل تناولها في مثل هذا النوع من كتب السير الذاتية في العالم العربي، فهو يشرك القارىء في تجاربه النفسية ومعاناته أمام النساء وعدم قدرته على التحدث معهن بيسر كما كان يفعل رفقاءه، وكان يري في نفسه بشع لا يمكن لأي فتاة أن ترضي بالنظر إليه، كما أن فقره وعسر معيشته لا تساعدانه على كسب قلوب الفتيات فتقوقع على نفسه لمدة ثلاث أو أربع سنوات صب فيها كل تركيزه على القراءة والدراسة حيث كان يقضى معظم الوقت في مكتبة الجامعة. رغم ذلك ولتفوقه الكبير ساعده على التعرف على العديد من الشبان الذين احتلوا فيما بعد مراكز القرار في لبنان وبعض الدول العربية منهم عمر السقاف.
 
يتناول منير في مذكراته المناخ  السياسي والاجتماعي في الجامعة الامريكية في الفترة ما بين 1934-1947 حيث ساد اكثر من اتجاه منها الاتجاه القومي السوري الذى استقطب نخبة من الشبان من جميع الأديان وجميع البلدان وصهرهم من الناحية الثقافية وجعلهم من العلمانيين. أما الاتجاه الثاني فكان اتجاه العروبيين أو المؤمنيين بالوحدة العربية. كما برزت حركة سياسية أسستها شلة من المثقفين اللبنانيين أمثال كاظم الصلح وتقي الدين الصلح ورامز شحادة وغيرهم وكان خطهم السياسي خطا عربيا واضحا لا دور للطائفية فيه وسميت هذه الحركة بحزب النداء القومي وكان لها منشورات عديدة تدعو الى الوحدة العربية ورص الصفوف ونبذ الخلافات.ثم القوميين العرب فكان للدكتور قسطنين زريق نشاطه المتمثل في عقد اجتماعات سرية يحاضر فيها عن فكرة العروبة، وكان من مؤسيي الحركة الدكتور جورج حبش زميل منير في كلية الطب وزميله بالمسكن في النادي الثقافي البريطاني لمدة أربع سنوات، وكذلك كان عضو في هذه الحركة وديع حداد و هاني الهندي.
 
أما الاتجاه الثالث فكان ابرز سماته نشوء الحزب الشيوعي اللبناني الذى استقطب العديد من المثقفين منهم الدكتور منصور أرملي زميل منير، بالإضافة لعضوية كلا من عدنان هلسة وعبدالحليم السعدي وآخرين.
 
العلاقة بين الاتجاهات الأربعة لم تكن دائما ودية فالعلاقة بين القوميين العرب والشيوعيين كانت عدائية والخلاف حول قضية فلسطين، لكن جميع هذه الأحزاب والحركات كانت تلتقي كلها حول العلمانية، ويقول منير شماعة حول هذه النقطة :” المؤسف والمحزن أن جميع الأحزاب التي التقت على العلمنة وفصل الدين عن الدولة اضمحل نفوذها ودخلتها التيارات الطائفية والمذهبية على أنواعها. وفشلها هذا ساهم إلى حد كبير في بروز أحزاب طائفية صرفة كالتيى نجدها في لبنان في يومنا الحاضر. فبينما كنا علمانيين قلبا وقالبا منذ خمسين سنة أصبحت هويتنا الآن طائفية ومذهبية”.
 
حول عمله بالسعودية لفترتان مختلفتان يقول الدكتور منير:” عرفت الإنسان السعودي منذ زمن بعيد وعشت خصاله الحميدة ودماثة خلقه وطيبته وكرمه ومازلت أفخر بصداقتي للكثير من السعوديين الذين أحبوا لبنان واللبنانيين “. لكنأن السيل المتدفق من الدخل المالي جعل من المال هو العنوان الأول في المملكة وتغيرت كل المقاييس، فبعدما كان المواطن السعودي يعمل جاهدا في الثلث الأول من القرن العشرين لكسب لقمة العيش، أصبح المال يتدفق عليه بلا حساب، ما أحدث تغييرات بشعة في تصرفات بعض صغار النفوس من أهالي المملكة خصوصا في تجوالهم في بلاد الغرب مما جعلهم فريسة للأعلام الغربي والصهيوني.
 
أما عن انطباعات الدكتور منير حول الحياة الامريكية فلم تخلو من نظرة سلبية للقيم المادية الطاغية على المجتمع الامريكية، و لخلو العلاقات الأسرية والعائلية من تلك الروابط القوية المتينة كما في الشرق حسب رأي الدكتور منير، وأن كان يري في تجربته في الولايات المتحدة الامريكية غني كبير عملته الكثير خصوصا في محيط جامعة هارفرد التي تخصص فيها في طب الجهاز الهضمي. كانت تضم مالا يقل عن ثلاثة أساتذة يحلمون جائزة نوبل في الطب والكيمياء العضوية، ويقول حول ذلك:” عندما تتحدث معهم يبدون كأنهم صغار القوم يلبسون الثياب البسيطة ويعملون في مكاتب متواضعة لا تبلغ مساحة الواحد منها مساحة غرف البوابين في شقق بيروت الفخمة، وهم يعملون من الصباح الباكر حتي ساعات متأخرة من الليل في الدراسة والأبحاث ثم يستقلون الفطار ليذهبوا إلى بيوتهم… كما تجد أن الأستاذ في أمريكا يردد بعد كل جملة يقولها: “وقد أكون على خطأ” و” وأرجو أن تدلوا بآرائكم إذا كانت تختلف عما أقوله لكم”. فالتواضع العلمي والذهني الذى وجدته في أمريكا كان له التأثير العظيم على حياتي العلمية”.
 
****
كتاب إقلاع وهبوط – سيرة طبيب من رأس بيروت
المؤلف: منير شماعة
دار رياض الريس للكتب والنشر
2008، 178 ص
 

مقالات ذات علاقة

الكاتب والشاعر .. محطات ورحلة واحدة

المشرف العام

سيرة منصور الكيخيا وقصة اغتياله في كتاب جديد للسنكي

المشرف العام

ضو الشندولي والشيخ العلامة محمد عبدالسلام قاجة

حسين نصيب المالكي

اترك تعليق