كريم عبدالله.. بغداد – العراق
تبقى نصوص المرأة نصوصا لا يجيدها الرجل حتى لو حاول أن يتقمص شخصية المرأة والبوح عن لسان حالها، تبقى هذه النصوص لغزاً محيّراً خصوصاً عندما تتحدّث عن ذاكرة الجسد النفسية والعاطفية لأنها تنوء بثقله وهمومه التي لا تنتهي، وكثيرا ما يبقى خطابها الشعري عبارة عن إنصات لهذا الجسد وحركاته وقلقه، ودائما ما تحاول ان تتخفّى وراء ثوراته أو تحاول الأجتهاد أن تتناسى مشاغبته وتمرّده فتغرّد باهضة الصوت والعذوبة، فلكل مفردة انعكاسات وتداعيات تصدر من أمكان بعيدة لدى الشاعرة تبوح بها أما عن قصدية او لا قصدية.
انّ نظرة سريعة الى النسيج الشعري للشاعرة هنا، سنلاحظ الأصرار على تكرار مفردة / أنا / وكذلك الألوان والفاكهة الطريّة. ان استخدام وتكرار الضمير المنفصل / أنا / لم يكن عبثيا ولم يكن هذا الضمير عبارة عن زوائد ونفايات نصيّة رهّلت النشيج الشعري عند الشاعرة، بل بالعكس استطاعت ان تشحن نسيجها الشعري بحالات شعورية عنيفة، فكانت كالقناديل التي تشعّ ومن خلالها يمكننا الولوج الى عالم الشاعرة وفكّ رموز وشفرات النصّ. لقد كان ضمير الشاعرة / أنا / هو المحور الرئيسي الذي تدور حوله ومعه جميع الأحداث، انه الصوت العالي الذي بثّ في النصّ الكثير من الدلالات والقيم الجمالية اضافة الى تحريك الايقاع الموسيقي باستمرار، عن طريقه أصبح النسيج الشعري أكثر قوة وترابطا وكأنّه سلسلة ذهبيّة بديعة الصنع.
لو حاولنا قراءة العنوان / غضب الأحمر / بتمعن لوجدناه يتكون من مفردتين / الغضب – الأحمر /، فالغضب هو عبارة عن عدم الارتياح والامتعاض / نفس – بدن / وهو موجود لدى الجميع كشعور طبيعي، وقد يكون هذا الشعور شديدا تصاحبة انفعالات نفسية وسلوكية تطول في بعض الأحيان وتهدأ في أحيان اخرى تبعا للمسبب والمثير، اذا مفردة / الغضب / هي دلالة شعورية تمتلك من الايحاء الشعوري طاقات وتعابير صورية ونفسية وجسدية، أما مفردة / الأحمر / فهي عبارة عن اشارة حسّية – بصرية – نفسية – وجمالية ايضا لما للألوان من تأثيرات ودلالات، هذه الاشكالية جعلت من العنوان مثيرا للكثير من التساؤلات عن هذا الغضب / وهذا الأحمر، فلماذا هذا الغضب والهيجان..؟؟!!، ومَنْ هو هذا الأحمر..؟؟!!!. لقد كان هذا العنوان خصبا بايروسيته التي ستتضح أكثر فأكثر كلما تقدمنا في قراءة هذا النصّ.
للمرة الوحيدة نجد الذات الاخرى ظاهرة في لغة الشاعرة عندما تشير اليها من خلال مفردة / جعلتني /، وكأن هذه الذات الاخرى قد أشعلت النيران في الذات الشاعرة واختفت او حاولت الذات الشاعرة التخلّص من سلطويتها عليها، لقد هيّجت الذات الاخرى براءة الذات الشاعرة الرقيقة والمكبّلة بالخجل والطفولة، فإنبعثت شلالات الحبّ عنيفة زلزلت سكون حياتها وبثّت فيها الدفء والحيوية بعد أن كانت غافية، لقد أقلقتها كثيرا حين غيّرت من نمطية حياتها الشيء الكثير بعد ان استسلمت لقدرها فاصبحت ترى كل ما حولها ورديا حتى شامتها السوداء كاشارة ايروسية مثيرة ولدت من جديد ولكن بلون وردة جورية زاخرة بالجمال والعطر والانوثة والشبق، هذا ما نجده في هذا المقطع :
غضب الأحمر
جعلتني أرى كل ما بي
وردياً،
حتى شامتي السوداء
على خصر الهزيمة
ولدت وردة جورية…
ومن الان فصاعدا ستختفي الذات الاخرى / الخالقة / لتطفو وبقوة الذات الشاعرة على طول النسيج الشعري، ويبرز بشكل واضح ومتعمّد الضمير المنفصل / أنا / وكانّها استطاعت اخيرا ان تتخلّص من هذا الارتباط الذي أحدث فيها كل هذه التغييرات النفسية والجسدية ، الذات الاخرى التي فعلت فعلتها واختفت من الساحة، وتبدأ هذه الذات بالعزف على اوتار الجسد المنهك للتنبيه عن حالات شعورية معينة، او هي محاولة على تأكيد ذاتيتها وتفخيمها كردّة فعل لما أصابها، وما تكرارها هنا الاّ لبيان حالة الصراع النفسي والتخفيف عن حالة التوتر المحتدم الذي تعجّ في نفسها.
أنا مخمل النبيذ
وقطيف الدراق
وساتان الكرز.
أنا كشمير التفاح
وحنين الموز
ومهير الإكيدينا.
وتحاول الذات الشاعرة ان تدعو وتؤكد انوثيتها في محاولة للخلاص من هذا التشنج النفسي والقلق المبرح، انها تحاول اثبات استقلاليتها عن الذات الاخرى بشتى الطرق، لكنها محاولات فاشلة ومفضوحة أثبتت هنا عجزها وحاجتها الى تلك الذات الاخرى لكي يتعزز حضورها، انها حالة من التودد للذات الاخرى واستدرجها.
أنا خيوط الذاكرة،
أنا غنج الكحلي
حين يراود رمادي الأمس.
مرّة اخرى تبرز الـ / أنا / هذا الضمير المبتلى من اجل احداث حالة شعورية لدى المتلقي والتوكيد واثبات حضور الذات الشاعرة وخلق لحالات موسيقة متداخلة بسبب رومانسيتها وغنجها من اجل رصّ النشيج الشعري رصّا ينبعث منه حالات شعورية ودلالية تعضّد من تماسكه وتبعث فيه حركية مستمرة.
أنا كبرياء البنفسج
حين يكسر الحداد،
وأنا الأصفر العفيف
حين أزواج حامض الليمون
ليطرد أرض الزرافة
من خجل البني.
تحاولالذات الشاعرة ان تستعرض جمالها وفتنتها من خلال ذكر الالوان المتعددة وكأنها قوس قزح، فكل مقطع نصّي هنا سيكون فيه لون معين، له ماله من دلالات، حاولت الذات الشاعرة من خلال هذا الالوان التلميح الى وجودها، انها حالة من التفاوض المعلن مع الذات الاخرى للوصول الى حالى الاستقرار والهدوء والعيش في نعيم وسلام والتخلّص من هذه الصراعات المحتدمة.
أنا المرقط الأفعى
لبيض النعام.
أنا خجل البرتقالي
من شفاه المشمش.
أنا غضب الأحمر
على طربوش السلطان
انّ ذكر الالوان وتكرارها / الاحمر / الاسود / الوردي / الكحلي / البنفسج / الاصفر / البني / البرتقالي / لها دلالات نفسية وصورية حسّية ملوّنة، فمنها ما يرمز الى التحذير ومنها ما يرمز الى الحبّ والهدوء والدفء وسموّ الاخلاق ومنها ما يبعث على الاطمئنان والامان ومنها ما يدل على الوضح التام او الغموض في نفس الوقت ومنها ما يدل على قوة الشخصية وتماسكها وثقتها ومنها ما يدل على رقّتها وعذوبتها ومنها ما يدل على المعنويات المرتفعة واحترام الذات والتفاؤل او الخوف والقلق ومنها ما يدل على تماسك الشخصية وحزمها. كل هذه الالوان شكّلت لنا صورا حسّية فتحت لنا آفاقا جديدة في إعادة قراءة النصّ وفتحت امامنا ابوابا للتأويل هذا من جهة، ومن جهة اخرى استطاعت الشاعرة ان تستحضر بعض الفواكه مثل / الدراق / الكرز / التفاح / الموز / الليمون / والمشمش / وتزرعها داخل نسيجها الشعري فجاءة ناضجة لذيذة جعلت من النصّ بستانا زاخرا بالحياة والأنوثة، ان تكرار كل هذه الفواكه فيها من الدلالات الايروسية ما وهب النصّ حيوية مستمرة، هذه الفواكه تشير من بعيد او قريب الى انوثة الذات الشاعرة ولطعمها اللذيذ وملمسها المثير الناعم وطراوتها وقسوتها، هذا التنوع في الفواكه انما يدل على شبقية الذات الشاعرة وما هي الا بعضا من صفاتها عكستها من خلال هذه الفواكه المتنوعة. فجسد الانثى زاخر بكنوزه الهامدة، ولكن متى ما لامستها اعواد الثقاب تدفقت بالعطايا على شكل نصوص راعشة مدهشة جاءت على شكل صور حسّية ذوقية ذات دلالات من خلالها استطعنا الولوج الى نفس وفكر الشاعرة : سهى سلوم.