الشاعر الناقد الثقافي محمد الفقيه صالح (1953 ـ 2017)
(1)
مراحل حياته وانعكاسها على تكوينه
فقدت الساحة الثقافية في ليبيا أحد أبنائها المسكونين حقّاً بالهم الثقافي؛ الأديب، الشاعر، الدبلوماسي محمد الفقيه صالح الذي شغل بالكتابة الأدبية والفكرية منذ مطلع شبابه، وعلى امتداد حياته التي تقلَّبت بها المصائر بين ثلاث عواصم كان لها الفضل في تكوينه الثقافي الرصين، وهي طرابلس والقاهرة ومدريد، لذا آثرت أن أستهلَّ هذه الصفحات القصيرة عنه بجدول تراتبي زمني لهذه المراحل؛ لنقف أولاً على مجمل البعد المكاني / التكويني لتجربته الثقافية.
ملاحظات:
ويمكننا أن نبني على هذا الجدول الزمني الملاحظات التالية:
1 ـ يشير الكاتب في نصِّه السردي الطريف (صندوق أبي) الذي ضمَّه إلى مجموعته الشعرية الأخيرة (قصائد الظل) 2016، إلى وجود بعض المطبوعات في هذا الصندوق العتيق من الكتب والمجلات، وتطلعه المبكر إليها، وهي تمثل بواكير قراءاته الأولية في سني الصبا الغض.
2 ـ ولعل هذه القراءات المبكرة كانت دافعة إلى تفوقه الدراسي، وخاصة في المرحلة الثانوية.
3 ـ ومن المعلوم أنَّ تفوقه في الشهادة الثانوية (ضمن العشرة الأوائل)، قد أتاح له الإيفاد المبكر إلى دراسة (العلوم السياسية / بجامعة القاهرة)، ولا يخفى أنَّ الرحلة المبكرة للدراسة في الخارج في مثل هذه السن لا بدَّ أن تكون مؤثرة باتساع الأفق.
4 ـ يبدو جليّاً أنَّ هذا التخصص السياسي من جهة / وأجواء القاهرة العاصمة العربية الكبرى المفعمة بالثقافة والحراك الطلابي المتوتر في تلك المرحلة (أوائل السبعينيات) من جهة أخرى، قد أتاح كلاهما له فرصة وعي سياسي مبكر نسبياً.
5 ـ وربّما أفضى به هذا الهاجس السياسي المبكر إلى السجن السياسي بعد بضع سنوات من عودته إلى بلاده، وكان إذ ذاك في الخامسة والعشرين من عمره.
6 ـ وقد كانت تجربة السجن دون شك عاملاً حاسماً مؤثراً في تشكيل شخصيته، وهي التجربة التي سجَّلها بعض رفاقه فيما نُشر أخيراً بعد الثورة من أدبيات السجون.
وهكذا نخرج، من هذا الجدول الزمني / وملاحظاته الموضوعية، بالخطوط العريضة لشخصية هذا المثقف السبعيني الذي يشكل مع رفاقه من المثقفين (الجيل الثقافي الثالث) بعد الاستقلال؛ إذ يمثّل الجيل الأول مَنْ ولدوا بيولوجياً في الثلاثينيات / وثقافياً في الخمسينيات، ومن أبرز رموزه خليفة محمد التليسي ـ على سبيل المثال ـ في حين ولد الجيل الثاني في الأربعينيات / وبدأ حراكه الثقافي في الستينيات، ومن أعلامه محمد الشلطامي. أمَّا هذا الجيل الثالث فقد ولد بيولوجياً في الخمسينيات (العقد الأول للاستقلال وظهور ليبيا المعاصرة)، وازداد في تلك السنة نفسها (1953) مثقفون / أتراب آخرون أيضاً من زملاء هذا المثقف السبعيني ورفاقه، في حين شهدت السبعينيات بداية ظهورهم الثقافي، ومن هنا عرفوا بالجيل السبعيني، وقد خصَّه المثقف الراحل نفسه ببعض كتاباته.
(2)
آثاره النثرية
ومن المعروف أنَّ لهذا المثقف السبعيني ثلاث مجموعات شعرية، وكتابين نثريين أيضاً في النقد الأدبي / والنقد الثقافي. أولهما: (أفق آخر: آراء ومتابعات في الشأن الثقافي الليبي)، الصادر عن مجلة المؤتمر سنة 2002، في 175 ص من القطع الصغير؛ وهو (كتاب مجموع) يضمُّ مقالاته المنشورة خلال فترتي السبعينيات (1976 ـ 1977)، والتسعينيات إلى مطلع هذا القرن (1994 ـ 2001). وقد وزَّعها فيه على أربعة محاور: (ملامح رؤيا / تأصيل وتوثيق / قراءات بين التحليل والتأويل / حوار ومناقشات)، وتغلب عليها الكتابة النقدية في حقلي الشعر / والسرد. وسأكتفي بهذه الإشارة الموجزة إليه، لأنتقل إلى كتابه الآخر: (في الثقافة الليبية المعاصرة: ملامح ومتابعات)، الصادر عن دار الرواد سنة 1437هـ/ 2016م، في 222 ص من القطع الأوسط المعتاد. ويضمُّ هذا الكتاب المجموع أيضاً مساهماته المنشورة خلال السنوات اللاحقة من هذا القرن، وهي مرحلة نضجه. وقد جعله كسابقه أيضاً في أربعة محاور: (في الشعر ونقده / في السرد القصصي / في الفكر / في التاريخ). ويشدُّ النظر ابتداء هذا التشابه الجلي بين الكتابين في العناية بالثقافة الليبية المعاصرة ـ على وجه الخصوص. وانظر ورود (المتابعات) في عنواني الكتابين، على ما بينهما من فاصل زمني، وهو ما يشي بحرصه الظاهر على مواكبة ما يوافق اهتماماته المذكورة من الحراك / والنتاج الثقافي.
ولا يخفى على المتأمل أنَّ الكتاب الثاني يمثِّل مزيداً من النضج الثقافي في اهتمامات المؤلف وعروضه، لغوياً / صياغةً / وموضوعياً، كما جاء أكثر دقةً من سابقه في توزيعه المصنَّف على المحاور؛ لذا آثرت أن أخصَّه بهذا الجدول التحليلي.
بعد هذا البيان الكمِّي العام لمجمل المحاور، أودُّ الإشارة بإيجار أيضاً إلى طبيعة المحتوى في كل محور؛ لمقاربة مجمل العمل وما يوحي به / أو يدلُّ عليه من اهتمامات هذا الأديب الباحث الناقد.
ففي المحور الأول عن (الشعر ونقده)، الذي يشغل نسبة 24 % بين المحاور، تطالعنا عدة عناوين عن: “بانوراما الشعر الليبي الحديث”، و”مقارنة بين جيل السبعينيات الشعري في ليبيا ومصر”، و”خطرات في تجربة إبراهيم الأسطى عمر الشعرية”، ومقالتان عن “تجربة الشلطامي الشعرية”، و”مجموعته الكاملة”، وعرض “لدراسة أكاديمية عن شعره” للباحثة أمينة هدريز، و”حكاية قصيدة” للشاعر الراحل الجيلاني طريبشان، و”القبض على برهة الكينونة الهاربة” عن تربه الشاعر عاشور الطويبي.
ويستهلُّ المحور الثاني عن (السرد القصصي) الذي يشغل نسبة 22 %، بمقالة موجزة عن “حاجتنا إلى ثقافة العلم وأدب الخيال العلمي”، التي يبدأها برؤية عامة، في حين يختتمها بالتنويه بالعمل الطليعي في هذا السياق (من مفكرة رجل لم يولد) للأديب يوسف القويري، وقد خصَّه بالمقالة التالية المطولة مضيفاً إلى عنوان هذا الكتاب: “بين اليوتوبيا وأدب الخيال العلمي”. تليها أربعة عروض نقدية أخرى: أولها عن “الاغتراب الوجودي والاجتماعي” في رواية (بيت في الدنيا وبيت في الحنين) لإبراهيم الكوني، و(سجنيات): “أو سوانح الكتابة في المابعد والمابين”، عن العمل السردي المعروف لتربه ورفيقه في تجربة السجن عمر أبو القاسم الككلي، وعرض بعنوان “عن الكتابة ونزيف الغربة” لمجموعة جمعة بوكليب (خطوط صغيرة في دفتر الغياب)، ويختتم هذا المحور السردي بعرض موجز لكتاب (مراعي الكلأ الافتراضي) للكاتبة الفلسطينية المقيمة بليبيا وجدان شكري عياش.
أمّا المحور الثالث عن (الفكر) فهو أقصر المحاور في حجمه الكمّي، بنسبة 16 %، إذ اقتصر على أربعة عناوين، أولها مقالة دراسية للمؤلف نفسه بعنوان “جدلية الثقافي والسياسي: قراءة في السياقين العربي والليبي”، تليها ثلاثة عروض لبعض الأعمال الفكرية من إنجاز أترابه؛ وهي “هوية الذات المنقسمة بين الفلسفة والأدب” عن كتاب الدكتور نجيب الحصادي (نوستالجيا / مقالات ودراسات ومراجعات)، و”معالم رؤية نهضوية جديدة في كتاب” (الأمة البدون) للدكتور محمود جبريل، و”مشروع طموح لدراسة الدولة والمجتمع في ليبيا” عن عمل تربه وزميله بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية الدكتور علي عبد اللطيف احميدة” الذي سيخصُّه بمراجعة أوفى في المحور اللاحق.
وقد جاء المحور الرابع / الأخير عن (التاريخ) أكبر المحاور حجماً في عدد صفحاته، بنسبة 38 %، واستهلَّه بمقالة دراسية عن “الانتقائية التاريخية بين المقتضيات المنهجية وتدنّي الوعي التاريخي”، وهي ورقة أسهم بها في ندوة حول الكتابة التاريخية (درنة 2009). تليها مقالة بعنوان “كتاب شامل عن المؤرخ أحمد النائب”، وهي عرض موجز لأعمال الندوة العلمية التي عقدت في الذكرى المئوية لصدور كتابه (المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب)، ونشرت بتحرير كاتب هذه السطور (طرابلس 2008). و”جذور التحول الاقتصادي الاجتماعي الحديث في ليبيا”، وهو عرض منقَّح مطوَّل نسبياً بالقياس إلى سواه، لأطروحة الدكتور على عبد اللطيف احميدة التي صدرت بعنوان (المجتمع والدولة والاستعمار في ليبيا: دراسة في الأصول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لحركات وسياسات التواطؤ ومقاومة الاستعمار، 1830 ـ 1932)، وقد أشار المؤلف في التقديم إلى أنَّه تعمَّد أن يعيد مراجعته التحليلية لهذا الكتاب التي سبق أن ضمَّها إلى كتابه السابق (أفق آخر)، بعد أن أضاف إليها عدة فقرات لمزيد من التوضيح، مع بعض الملاحظات النقدية، وذلك للأهمية الفائقة التي ينطوي عليها هذا الكتاب. ويلي هذه المراجعة التحليلية عرض آخر بعنوان “أول الغيث كتاب عن السعداوي وحزب المؤتمر”، عن كتاب الدكتور محمد المفتي (السعداوي والمؤتمر بين التمجيد والنسيان)، وهو من رموز التاريخ السياسي المعاصر. في حين جاءت المقالة التالية “نُسالة الذاكرة فضاء للألفة وأمثولة للوفاء” عرضاً / كان في الأصل تقديماً، لكتاب (نُسالة الذاكرة: نفشها فغزلها فنسجها)، للكاتب التونسي الأستاذ محمد نجيب عبد الكافي الذي اضطرته الظروف السياسية إلى مغادرة بلاده والإقامة بطرابلس التي عرفته خلال السنوات (1955 ـ 1972) معلماً وإذاعياً وصحفياً وكاتباً معنياً بالعادات والتقاليد والتراث الشعبي، فضلاً عن الترجمة فيما بعد عن اللغة الإسبانية، وفي هذا الكتاب العديد من الذكريات عن طرابلس في تلك الفترة، ويُستشفُّ من هذا التقديم الذي كتبه الفقيد الراحل في مدريد بتاريخ (6 ـ 6 ـ 2013) أنَّ صداقة حميمة ربطته بالمؤلف (المقيم بها) الذي صرَّح في مستهل كتابه أيضاً أنَّه دوَّن هذا العمل استجابة لإلحاح الأستاذ السفير المثقف محمد الفقيه صالح، وصدر الكتاب عن (دار الفرجاني) في تلك السنة نفسها.
أمَّا المساهمة الأخيرة في هذا الكتاب الثري القيم فهي ترجمة عن الإسبانية لبحث نشر بمجلة أفريقيا الصادرة بروما سنة 2004، وهو بعنوان “ولادة الصحافة في ليبيا: مجلة المنقّب الإفريقي الصادرة في طرابلس عام 1827“، بقلم ماريا خوسيه بيلار، وسبق صدور هذه الترجمة في كتيب مستقل ضمن منشورات مجلة المؤتمر سنة 2007، ويليه ملحق وثائقي (نص رسالة القنصل الإسباني خوسيه غوميث إيرادور إلى غونثالث سالمون في إسبانيا حول إصدار دورية في طرابلس باللغة الفرنسية). ولذا يمكن القول إنَّ هذه المساهمة الأخيرة في الكتاب قد ارتقت إلى الترجمة عن الإسبانية، وهي تأتي نتاجاً لسنوات مدريد الأولى (2000 ـ 2004) التي أتاحت له هذه التجربة الثقافية الجديدة، في حين جاء الكتاب السابق (نسالة الذاكرة) للأستاذ محمد عبد الكافي، باقتراح وتحريض من الأستاذ محمد الفقيه صالح خلال سنوات مدريد الثانية (2011 ـ 2017) التي كانت خاتمة رحلته ـ تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه.
وقد آثرت الاكتفاء بهذه الإشارات المجرَّدة إلى محتويات الكتاب من خلال المحاور؛ لنقف على سماته العامة التي يمكن إجمالها في تعلُّقه غالباً (بالشأن الثقافي المعاصر) ككتابه السابق (أفق آخر) من جهة، وفي أنَّ هذا الكتاب الجديد يتجاوز ـ من جهة أخرى ـ النقد الأدبي عن (الشعر ونقده / والسرد القصصي)، إلى حقلي (الفكر / والتاريخ)؛. وفي الكتاب وقفات عديدة مع هؤلاء المثقفين المعاصرين، على اختلاف أنماطهم التكوينية / وألوان عطائهم: إبراهيم الأسطى عمر، محمد الشلطامي، الجيلاني طريبشان، عاشور الطويبي، يوسف القويري، إبراهيم الكوني، عمر أبو القاسم الككلي، جمعة بوكليب، وجدان شكري عياش في المحورين الأول والثاني. ونجيب الحصادي، محمود جبريل، علي عبد اللطيف احميدة، (ندوة المؤرخ) أحمد النائب الأنصاري، محمد المفتي، فضلاً عن الكاتب التونسي محمد عبد الكافي، والباحثة الإسبانية ماريا خوسيه بيلار، في المحورين الثالث والرابع. لذلك ينبغي أن يدرج الكتاب بكامله في (النقد الثقافي).
(3)
مجموعاته الشعرية
ومع بعدي عن النقد الأدبي يمكنني القول إجمالاً، من خلال ذائقتي المتواضعة، إنَّ هذا الأديب الشاعر / مع عدد من رفاقه أو شعراء جيله، كانوا نهاية جلية لـ(قصيدة الشعر الحر/ أو شعر التفعيلة) على وجه الخصوص، إذ سرعان ما شاركها في هذا العقد، وغلب عليها فيما يليه، ذلك اللون الجديد الذي عرف أخيراً بـ(قصيدة النثر)، وقد شدَّ انتباهي عند عودتي القريبة إلى كتابيه النقديين أنَّه لم يكن في البداية ميّالاً إليها. وتلوح بين مجموعته الشعرية الأخيرة (قصائد الظل) بعض النصوص المتميزة التي تذكّرنا حقّاً بتلك النماذج الناصعة السلسة المنسابة للشعر الحر لدى أجيال أسبق من رموزه في الداخل والخارج.