لم تغفل أدبياتنا وأهازيجنا التراثية والغنائية الليبية على تحصيننا ضد صور القبح والبشاعة والتفرقة والكراهية والانقسام كافة وذلك من خلال توطين جماليات عناصر المكان والبيئة في نفوسنا، وتعبئتها بكل ما يسمو بها عن الصغائر والدونيات والأفكار المتطرفة.
والفل كان ولازال عنصراً من عناصر أمكنتنا في مدننا وأحيائنا وقرانا ومزارعنا … ورمزاً للرقة والنعومة ومصدراً للشذى ومبعثاً للعبير والبياض … وبالتالي فكل من تعرف على عشق ومحبة زهرات الفل، أو قطفها ولظمها في عقود فوّاحة تتزين بها الحسناوات الجميلات، وتطوق أعناق الطيبين النبلاء، سينحاز طواعية وفطرياً إلى عوالم المحبة والصفاء والتسامح والتصالح. ومن خلال تأمل تشكيلات لظم زهرات الفل الرقيقة يغيب سابحاً في فضاءات هيام موسيقية ودندنات وجدانية ومعزوفات قلبية لا يمكنها إلا أن تسمو وتتعالى بروحه ونفسه وأفكاره عن كل قبح وبذاءة وشرور و.. غرور. وهذا بالتالي يجعلنا نأمن جانبه ونثق في أنه فكرياً وقلبياً لن يحمل أي كراهية أو عداوة أو ضغينة تجاه ذاته .. والآخرين.
الصابري عرجونُ الفل …. الصابري عُمره ما ذل
هكذا شربنا الاعتزاز بالمكان والمدينة والوثوق بالقدرة على الفعل الايجابي النبيل وعدم التراجع أو التهرب والتراخي. هذا هو البناء الفكري والمدد التربوي والتعليمي الذي نتزود به من خلال ما يتردد في أوساط بيئتنا منذ أزمنة بعيدة فيلهمنا فخر الانتماء للمكان/الوطن الذي يمثل جزءاً مهماً من هويتنا الليبية.
عرجونُ فل منين فاح خذاني … خطّر عليّ عُمرنا الحقاني
وعلى نفس القدر كان ولازال مشموم الفل وعقود الياسمين رمزاً لمدينة طرابلس ومالوفها وأعراسها البهيجة، ولازالت ساحة ميدان الشهداء تحتفي بألوانه البيضاء وتتعطر وتعبق برياحينه وعطوره الآسرة الفوّاحة فتكتسي أنفاس العابرين والزائرين نشوة المحبة والعشق لهذا الوطن الذي يجمعنا بكل قراه ومدنه وشرائحه.
في هذه المصافحة الأولى (عرجون فل) .. أهديكم زهراته وروائحه .. معنى ودلالة .. وأطوقكم بعقوده تحيةً ومحبةً .
_____________________
نشر بصحيفة برنيق.