محمد نجيب عبد الكافي
غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون. عملا بعبر هذه الحكمة ، زرع المسؤولون الأوائل الذين استلموا مقاليد أمور ليبيا المحرزة على استقلالها بعد كفاح بطولي واستعمار ثقيل وحرب عالمية مدمّرة ، زرعوا بذرة التعليم والتكوين إيمانا منهم بأنّ في ذلك نجاح ليبيا وشعبها الأبي. رغم الجفاف الشديد الذي ضرب البلاد لقرابة نصف عقد ، تجذرت البذرة ثم أينعت وما هي إلا بضع سنوات حتى عاد إلى أرض الوطن أبناء أرسلوا لتلقي العلم فعادوا حاملين ، من عديد كبريات الجامعات في العالم شرقا وغربا ثمّ من الجامعة الليبية المؤسسة بالتضحية وعرق الجبين ، الشهادات العليا في مختلف الإختصاصات ومدفوعين بالعزيمة والطموح ليقينهم من حاجة الأم لخدمتهم وتفانيهم.
تعايش وانسجام
بكل ترحاب استقبلوا ، وبالعناية من المسؤولين قوبلوا ، ثمّ عيّنوا في أعلى المراكز وأكثرها حيوية مما قصّر مدّة تواجد الغريب في الإدارة التي تليّبت كلّيا وأصبحت أمورها بأيدي جيلين من أبنائها البررة: كبار يعملون بالخبرة والتجربة ، وشباب طموح سلاحه العلم والتقنية. بانسجام تام وإخلاص نادر سارت ليبيا نحو العلا بتؤدة وسرعة مما لفت الأنظار إليها متعجبة ومحترِمة. كم مرّة كنت شاهد عيان وسماع ، على حلّ مشاكل إدارية قانونية تطويرية ، في جلسة مسائية بمقهى من مقاهي طرابلس ، مقاه اشتهرت بالنظافة والراحة ورفعة المنتوج. نعم ، كان العمل والبحث عن النجاح وتحقيق المبتغى يستمر مساء وحتى ليلا ، خارج المكاتب وفي المقهى مثل مقهى البريد (البوسطة) بشارع الاستقلال أو مقهى ” البنبونيارا ” مواجها لمبنى البريد ، حيث لا ضغط ولا توتر. يأتي ذكر المشكل فيدور بشأنه النقاش ، والحوار، والتساؤل ، وأخذ الرّأي ، والاستفسار عما ينص عليه القانون إلى أن يوجد الحل ، فيتمّ الاتفاق ، ويتواعد المسؤولان أو المسؤولون عن الأمر بتبادل الضروري من المكاتبات ابتداء من الغد ، وتنتهي الجلسة بالمقهى بحل مشكل من مشاكل البلاد. أذكر من هؤلاء الأبناء الخلّص ، مثالا لا حصرا ، سالم القاضي وهو ناظر ووزير مالية ورئيس البرلمان ، ونجم الدين فرحات ناظر الأشغال العامة ، وعبد السلام بريش ناظر المالية ، وعلي عقيل مدير شرطة المرور، الذي جعلها قدوة في المنطقة ، والمهندس علي الميلودي من عدة مناصب تولاها ومحمود عبد المجيد المنتصر، وعبد الرحمن العجيلي من عدة مناصب أيضا. أما مجلس مقهى البومبونيارا فبعض شخصياته فاضل الأميروزير داخلية ، أبوبكر الزليطني وكيل وزارة الداخلية ، صادق البشتي وآخرون قدتعود أسماؤهم إلى حفرة الذاكرة. لم يكن أحد منهم معصوما وكانوا مختلفي أو حتى متعارضي الاتجاهات والميولات لكن كانوا ليبيين ويعملون لليبيا التي عرفت. فأين هي يا ترى ؟
أمن وسلام
أقمت سنوات بقرقارش في ما سّمّي حي الأندلس ، شوارعه لم تبلّط بعد وبلا أسماء ، فأسميت شارعي شارع المهاجرين وسمّى الحاج محمد الكاديكي شارعه الأنصار. جاري الجنب كان مهندسا شابا بريطانيا أرسل ليشرف على تطبيق بند التشغيل والصيانة الذي كانت ليبيا تشترطه عند شراء معدات وآلات. أقام هذا الشاب عامين لم يغلق أثناءهما أيّ باب من أبواب مسكنه بحديقته ومستودع السيارة . نعم يترك الأبواب مفتوحة على مصراعيها رغم ما في الدار من أثاث ولوازم مغرية. هل فقد يوما شيئا؟ لا وألف لا وحتى لمّا سألته أجابني بابتسامة سائلا بدوره: لماذا ؟ فابتسمت أنا أيضا.هذه هي ليبيا التي عرفت. للحديث بقية إن طال العمر.
* الصورة: مقهي الاورورا،ميدان الجزائر،تصميم الايطالي فلورستانو دى فاستو سنة1930