من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني
غسلتْ جسمَه المطرُ التي أخذت منذ حوالى الساعة تهطلُ بغزارة ودون توقفٍ، وتقطرُ ملابسه بالمياه كأنها سحابةٌ و تسقط منها مطرٌ أخرى، يرتعد من شدة البرد، ترتجفُ أطرافه وتصطك أسنانه، مما أجبره على البحث عن ملاذ عاجل في هذه اللحظات الحرجة، لإنقاذ نفسه من الموت الداهم برداً، واسعافها قبل فوات الأوان، إذ تنخفض درجة الحرارة في هذه المنطقة الجبلية خلال فصل الشتاء الى معدلاتها الدنيا، انتظر نهاية المطر لكن على ما يبدو أنها لن تتوقف قريباً، فالسماء لا زالت ملبدة بغيوم داكنة ومليئة بالمياه وتزداد تراكماً واكتظاظاً وتنذرُ بالمزيد.
وهو في غمرة هلعه يسمع على مقربة منه صوتَ كشطِ مجرفةِ دون أن يراه حيث يَحُولُ دون ذلك خيوطُ المطر الكثيفة المنهمرة، إنه أحدهم يجدد إصلاح ساقية صهريجه كي تنقلَ المياه اليه و يمتلئ في أقرب وقت، يكافح وسط هذا الجو الماطر باستبسال غير عابئ بالبلل، فقد يكف المطر كما يظن وتتوقف السيول المتدفقة الى نهاياتها وتضيع دون أن يمتلئ صهريجه، إذ انه سيعود عما قريب الى بيته المجاور ويبدّل ملابسه المبتلة بأخرى جافة وكأنه ما كان مبتلاً.
اقترب منه أكثر تقوده أذنه الى مصدر صوت الكشط، حتى يكون في مكان وعلى بعدٍ أوضح منه وبادره بالتحية:
– السلام عليكم.. أعانك الله يا أخي.
فرد عليه تحية مقتضبة ليشعره بانه غير مُرحَبٍ به وانه جاء في وقت غير مناسب. توجه بطلبَه في استحياء:
– يا أخي أنا عابر سبيل وكما تراني بين مطرين مطر فوقي ومطر تحتي، وقد بللني كثيراً حتى انه يهدد حياتي، والمسافة بيني وبين المكان الذي أقصده لازالت طويلة.. والجو ليس خافياً عليك، ألتمسُ منك حمايتي من المطر الذي ينهمر منذ بدايته على رأسي، بأن تأويني هذه الليلة عندك.
أجابه الرجل بجفاء واضح:
– المكان الذي ليس لك فيه أصحابٌ تعتمد عليهم لا تقصده. فما يحدث لك الآن إلا لأنك لا أصدقاء لك هنا، والا لكنت في حمايتهم الآن!
صُدِمَ عابرُ السبيل بهذا الرد القاسي غير المتوقع في مثل هذه اللحظة، إذ ليس من اللائق أن يقابل بهذا الأسلوب الخشن الجارح، لكنه ابتلع مرارةَ الردِ ، وتصاغرَ ضاغطاً على نفسه كي تحتملَ الموقف ولا يبدر منه تصرفٌ قد لا ينفعه، وهو يتمتم في نفسه (لدي أصحاب ولكن أينني منهم الآن، وأينهم مني). ورد عليه:
– أنا يا أخي عابر سبيل وصادف أن أمطرتْ هذا المطر غير المتوقع كله وبهذه الغزارة في هذا المكان. ولكن ما علينا، لتكن أنت صاحبي في هذه البلدة منذ اليوم، ونصبح أصدقاء الى آخر العمر، وتأكد إنك لن تندم من صداقتي.
وجدَ الرجلُ في إجابته الكثيرَ من الاعتدادِ بالنفسِ والنبالة، فشعرَ بالخجل ورقَّ قلبه فقبل باستضافته عنده هذه الليلة، وفي الطريق الى البيت وهما يتحدثان سأله عن نَسَبِهِ ، وعن المنطقة التي ينتمي اليها ، فقال له أنا من (مزده). فتذكر الرجل المضيف شيئا مهماً عند سماعه للكلمة الأخيرة، له علاقة به وقال للضيف:
– مزده؟! إن أبي قد قال لي قبل موته بأن له صاحباً وفياً وشهماً، ويستحق هذه الأوصاف عن جدارة، يعيش في (مزده)، وأوصاني اذا ساقتني الظروف الى هناك بأن أبحث عنه وأستجير به، وخاصة إذا ما ضاقت الدنيا عليّ وأظلمت في وجهي، فهو لها، واستطردَ المضيفُ أنا لم ألتقِ به ولم أره في حياتي ولكن اسمه “أمحمد الطبيب”.
صمتَ الضيفُ ولم يرد عليه وتجاهل الاسم الذي نطق به مضيفه، لكنه قال لمضيفه:
– أنا أجمع أصدقائي من مختلف المناطق وأعرّفُ بينهم.. أقدم بعضهم معرفاً إلى بعض كهدايا مني، وأنا على ثقة تامة بأن كل واحد منهم سيعترفُ لي بأنها أنفس كنز قدمته له، وذهبا معاً الى غرفة استقبال الضيوف، أوقدَ له النارَ وجَفَفَ ملابسَه المبتلة وتعشيا معاً ونام الضيفُ في الدفء طيلة الليل، وفي الصباح قدم له وجبة الإفطار وهم بتوديعه ومشى معه مسافة كواجب وداع تقليدي، والضيف يحدثُ مُضيفَه قائلاً له:
– إذا طوحتْ بك الظروفُ في يوم ما الى بلدة (مزده) فسلْ عني أول شخص تقابله في البلدة فأنا رجل معروف، ان إسمي “محمد الطبيب”.
وما ان سمع المضيف الاسم حتى لطم جبهته بكفه ندماً على ما قاله مساء أمس لضيفه في بداية اللقاء:
– إذن أنتَ صاحبُ أبي الذي أوصاني به! ولماذا لم تقلْ لي ذلك منذ البارحة عندما التقينا وأوضحتُ لك ان اسم صاحب أبي هو “محمد الطبيب”.
فرد الضيف:
– هه هه، ولكن كي أعرفَ المزيدَ عنك منك.
وأضاف الضيف:
– إذن لدّي صاحب في هذه البلدة وليس كما زعمتَ في بداية لقائنا!