في مقهى يطل على البحر جلسا يتحدثان وينظران بين الحين والحين إلى الموج المعتم الذي تضئ قممه الصغيرة تحت أضواء السفن الراسية وأنوار الميناء القريب. وكان مشهد البحر المترامي حولهما عبر زجاج المقهى بالغ الهدوء، لكنه يهيء خداع الرؤية فيخيل لهما في أحيان كأنهما على سطح سفينة تتحرك نحو غياهب البحر وأن المقهى يندفع بطيئاً بحافته الأمامية مسافراً بهما إلى حيث لا يدريان. ومرت برهة قبل أن يضج المكان بأصوات رخيمة أطلقتها صفارات السفن الراكحة ترحيباً بمولد سنة جديدة. فتبسما بوهن وهما يشعران بالدفء الذي وفرته تجهيزات المحل المزحم بالرواد.
وجاءت إليهما في التو أكواب الكاكاو الساخنة الممزوجة بالحليب وضعها النادل بأدب جَمّ ثم استقام يجيل النظر باتجاه البحر قائلاً:
– كل عام وأنتم بخير.
فأجابا معاً بصوت يغالب الصفارات:
– كل عام وأنت بخير.
ثم شرعا يرتشفان. كان أحدهما بديناً، حسن الهندام واحتجب عنقه تماماً خلف صوف سميك. والآخر طويل القامة، لم ينزع معطفه عند الدخول وأبقى ياقته ذات اللبد مرتفعة تغطي جانبي وجهه. قال الرجل السمين بنبرة خفيفة في ثناياها سأم عميق:
– عام جديد يهلّ وسط أنباء الزلازل والبراكين!
ثم أخذ رشفة طويلة صائتة واستطرد بحنو: “كم عمرك الآن ؟!” فأجابه على الفور: “ستون سنة”.
وما لبث أن أردف بلهجة لا مبالية:
– لم يحن أوان التقاعد!
فصاح الأول:
– في الماضي كان من السهل تغيير تاريخ الميلاد. أنا فعلت ذلك قبل ثلاثين سنة، أما في وقتنا الحاضر فالأمر صعب.
فقاطعه:
– حتى لو كان الأمر سهلاً لما فعلت مثلك!
ثم استأنف حديثه بعد لحظة صمت وابتسامة باهتة مغتصبة تتلاشى على أسارير وجهه:
– المرء لا يولد أكثر من مرة، ولو أنني أقدمت على تغيير تاريخ مولدي لشعرت برعب وانهيار مبعثهما إحساسي بأنني سأكون شخصياً آخر لا صلة لي به، فإلى أي مآل عندئذ ستذهب ذكرياتي وهي زادي!؟ سيقولون جميعاً وسأقول أنا همساً في سريرتي: “من كان يسكن في البيت الجبلي؟! ومن نزح للمدينة صغيراً وعرك الحياة بين جنباتها ؟!”.
فهز البدين راسه على مضض وقال:
– ضرورات الاحتفاظ بعملي كمهندس كهرباء دفعني لذلك. والحقيقة أن سني جاوز السبعين!. وبخصوص الذكريات فهي كما هي. لن تفر! فلماذا أنت حساس إلى هذا الحد؟!.
فعقب الرجل الطويل متحسساً ياقة معطفه الفاخر:
– دع عنك هذا! لقد بقيت طبيباً بيطرياً تابعاً للدولة مدة ثلاثين سنة أفحص لحوم البقر والإبل والشياه ولا أتناول منها الكثير، لأني مغرم بالدجاج والسمك وثمار النخيل..
قال المهندس متسائلاً:
– مع اللبن الرائب؟!
فأجاب الطبيب:
– نعم! غذاء للجسم وغذاء آخر للعقل فأنا أقرأ بلا كَلَل، وأنفق الوقت في العناية بقطط المنزل. ولديَّ جرو جميل الأذنين جلبته لي زوجتي الألمانية التي تعلمت منها الكثير، وفي مقدمة دروسها الاستفادة من الوقت الضائع!
أشعل المهندس لفافة تبغ ونقث دخانها الكثيف عالياً، ثم هتف:
– دكتور! أرى أنه حتى مع امتلاء الوقت، هناك زمن ينخرنا جميعاً.
فمال الطبيب إلى المنضدة ونظارته الطبية تلتمع قرب عيني جليسه قائلاً:
– تقصد الزمن الكوني!؟ هذا شأنً آخر!
ألقى المهندس البدين بسيجارته الطويلة المشتعلة إلى المطفأة، وظل يفرك يديه مراراً وهو يقول:
– لكنه زمن في كل الأحوال! فهل تشعر بالسرور لأن عاماً جديداً قد أزف؟!
إن كل سنة جديدة، هكذا أفكر، تكون لي بمثابة مطرقة ضخمة توقظني على الحقائق. ولا أخالك ترى أشياء غير السراب والخاتمة!
فناشده الطبيب ذو المعطف الفاخر قائلاً:
– يا لطيف الألطاف!.. ما هذه السوداوية ياباش مهندس! إن بمستطاعنا أن نملأ الوقت بهوايات وأعمال مفيدة فنهزم الهموم والضجر ونكسب الهناء. حتى أتعس الناس حظاً يجد مباهج كثيرة سانحة إذا تعلم فن العيش والحياة.
فوجم المهندس متململاً ثم نهض بتؤدة يرتدي معطفه ويلتقط عصاه المعقوفة ويهم بالخروج قائلاً:
حان وقت العودة.
فنهض الطبيب بدوره بعدما شرب كوباً كبيراً من الماء. وعندئذ حذا المهندس حذوه. ثم انصرفا نحو العربة القريبة التي انطلقت بهما مسرعة وصوت الطبيب يعلو بمرح وراء عجلة القيادة:
– يا رجل!.. أنت ساهمت في إنارة الميناء على الطريقة العصرية. ألا يكفي ذلك لتغمرك السعادة!؟
فعلق المهندس بسخرية مرة وقد أرخى رأسه إلى الوراء على مسند المقعد الوثير:
– لكنك نسيت أن المصابيح مع مرور الوقت تنطفئ للأبد فلا يفلح حتى تيار الضغط العالي في إعادتها مُشّعة كما كانت!.
________________________