قصة

تـمر الدرابـيك

ميهة باردة.. برّد يا عطشان..

طق.. دق.. طاف..

حنا ماكنشافيوش الله هو الشافي..

شك.. بك.. نك..

اللّي عنده حجر الكلاوي.. سلس البول.. حريق المعدة.. النبولة..

تك.. بك.. شك.. طاف.. دق..

زيدْ قرّب.. زيدْ قرّب.. اللي ماشرا يتنزه..

طق.. دق.. بك.. تك..

اللي عنده وكرمنا الله يزيدوا واللي ما عنده الله يجيب.

طق.. دق.. بك.. بم.. بم..

ميهة باردة.. كلاوي.. حريق.. البول.. قرّب..

ما نعطيك.. يتفرج.. الله..

ساحة جامع الفناء واسعة مرصوفة، مقسَّمة بخطوط بيضاء سوّدتها النعال.. كل مربع أو دائرة وسمته البلدية برقم مصفر، تتبعثر في أرجائها حلقات بشرية تُذكَّرنا بأجواء سوق عكاظ.. مروضوا الأفاعي والثعابين، مُلعَّبوا القرود وبنات آوي، بُصَّار الكف، ضُرّابُ الودع.. شَعْواذة ينادونك باسمك دون سابق معرفة، باعة التمور والمكسرات وعصائر الموالح.. عربات للأطعمة الشعبية، سُقاة بملابسهم الحمراء يتبارون في قرع أجراسهم ورطْمِ أقداحهم المعدنية للعطاشى.. الأحمر الطوبي طاغٍ في الأرجاء، أينما تولَّي وجهك يطالعك لون الطين.

مراكش عجينة الأديم.. حمراء القاع.. خضراء الجمَّة والخصلات.. ما ألذّ تمر وخمر نخيلك.. كم أحببتك أيتها الآسرة الودود.. اوْهجتني تداعيات الود.. فارتقيت أتبرّد على قمم أوريكا.. بياض ناصع خضلَّ بدفء حمرة الشروق والغروب.. خفّضت رأسي وفركت عيني الدامعتين، أتأمل الزحام، أنصت للصخب.. العربة ذات الحصانين تجلبُ السوّاح.. أحد الحصانين يزبّل مديراً رأسه لجذبة اللّجام.. لسعة سوطٍ تركّضهما.. الآخر يرفع ذيله مفسحاً الطريق لدَلقةِ روث قادمة.. تناغم شجي ينساب من أجراس الطوْقين يمتزج بطرقات النعال على الإسفلت… بأصداء صهيل بعيد يقترب.. في نهاية الامتداد الكتبية شامخة بهامتها المربعة..

كم من أمطار غسلتها..!

كم من صهود لفحتها..!

وكم.. من دماء سفكتها..!

حافلة كبيرة تفرغ فوج سوّاح يرتدون ملابس متنوعة متعددة الألوان، تلمس بوضوح أممية الكساء.. جلابية مغربية مع سروال جينز.. بُلغَة فاسية مع قبعة مكسيكية.. عالم مدهش يرسم على المُحيّا شَدَاهَة مرحة ويبعث في الروح ظماءات للإدراك.

المنظر أخّاذ، والجو العابق بأريج التاريخ والحضارات يعود بقرننا المختونة خيراته إلى أزمان ألف ليلة وليلة.. الدراهم تقفز من الجراب بطيب خاطر، والتي لا تقفز تبلل المحفظة بدموعها.

أتسكع بين حلقات الاسترزاق.. أقلّب عن قصيدتي المبتورة.. لا أجزم أنّي سأرتقها.. لكن قلبي يصرخ بألاّ أوقف البحث.. ما أنْ أذوب في حلقة، حتى أتكثف في أخرى.. ميلودراما الأحاسيس تتنازع ذائقتي.. أُبحلق في العيون، أتجرأ واقترب.. تغزوني صنّة شبقية.. لا أُقاوم.. لكن ابتعد.. ابتعد.. هدّني التعب.. تهالكت على صندوق جنب عربة برتقال.. أتأمل الجبال المزينة جيد مراكش بعقد من جلاميد الجليد.. أرفع رأسي أكثر!.. القمم الثلجية تلامس السحاب.. تغلّق عليه فراغ أخاديدها فيفرّ من الفخ.. آخر ساهٍ يحلّ مكانه.. قبل الانغلاق ينتبه فيرحل مع أول نسيم.

استغرقت في المنظر بمخيالاتي..

من صدّع الجليد؟!.

ليس ضوء الشمس ولكان روئبنا.. افتح عيني أكثر.. أكثر!

سحابتان تتراودان. ترفضان هرش الجليد.. يتطاول ناحيتهما يلاحقهما. يكثّف بخار المسافات بلظى الاقتراب.. يستنجد بالضباب.

إلهي غيّم على وشك العناق.

شكع برق أبهر النهار.

في لحظة الشكع لحظـتُك تطلّين.

أمظلمة تستأنسين بالشرر؟

أفي وحشة تمكثين؟!

ضفائرك تهتز.. تتوقف حال ملامستها نفور نهديك.. مغناطيس يغوي برادة شعر.. برقٌ أقوى ُيدَّوي.. خصلة شعر تهبط من جمتك.. تحط أسفل جبينك الوضّاء. إحدى شعيراتها تطاولت واستحمت بدمعة. مواصلة رحلتها إلى مرفأ خالك المُسمر والمتسمّر أسفل فتحة الأنف.

لا تقطعي شعرة الري تلك.

هَززتي رأسك فتناثر المزيد.. دمع منثور كومض نور.. أحُسّك ترتعدين من البرد. تدلين ناحيتي دلاء الأنامل.. مددتُ لك معطفي. رفضت أنْ تتناولينه.

– أنتَّّ أحوجُ.. لدينا جمر البرق.

– شعرة الري.. شعرة الري..

– اطمئن لن ألمسها غاضبة أو مصمّغة !.

– شعرة الري.. شعرة الري..

– اطمئن.. اطمئن.

قلت للملتحي المحفوف الشارب المربت على كتفي : لا أتقرب إلى الله بمعطفي..أُناجي نقطة خال تحت فتحة أنف لامرأة.. هناك.. فوق.. فوق..!.

– وهل هذه المرأة محرم؟.

– لا.

– أنت زنديق !.

– لم تبتعد !!.

كنت برداناً جائعاً، صعدت مطعماً فوق سطح نزل شعبي يشرف على الساحة.. التهمت صحن كسكسي وطبق سلطة.. أشعلت سيجارة.. رشفت من الشاي وبين السحب والرشف أراقب الساحة.. الخلق تتجمع مجدداً قافلة مظلاتها.. نافضة معاطفها وستراتها من قطيرات المطر.

عاد النشاط يعم الحلقات أغمضت عيني لبرهة وفتحتهما رافعاً رأسي إلى السماء.. ابتسمت لنفسي ونفسي لابتسامتي.. وابتسامتي قهقهت متسعة.

نقدت النادل ونزلت منخرطاً في الحلقات.. مشاهداً ومشاركاً بحماس.. لم ألعب كفاية في صغري.. أبي عامل يومية.. يخرج فجراً ويعود بعد صلاة العشاء.. كانت أمي تقفل علينا الكوخ فأتلصص من خلال الثقوب لشبه الحياة اليومية.. لا أذهب إلى السينما إلاَّ أيام العيد.. وما أقلّها الأعياد.. وقد تكون أياماً يعمل فيها والدي.. البحر ممنوع والأقران الميسورون يتباهون.. أحياناً أُعاند وأهرب من الكوخ.. أذهب إلى سبخة (رأس عبيده).. اصطاد الفراشات بشريط بلاستيكي.. وأسبح شبه عارٍ على ضفافها الضحلة.. كثيراً ما وشا الوشاة فضربني أبي بقسوة.. ووبخ أمي وبيخاً بذيئا.. مقسماً بتطليقها أو الزواج عليها بمصرية إنْ غفلت عني لحظة واحدة.

لا أدري لِمَ يفعل والدي ذلك؟.. إلى الآن لم أفهم وحتى وإنْ فهمت فسأعتبره فهماً بائتاً!.

أعيش في مراكش بعمر طري.. طفل مِعنَاد مصرّ على رؤاه البكر.. ألعب.. أشارك.. ضحكاتي صاخبة.. أزُنّر رقبتي بالزواحف.. وأجعل جيوبي أغماداً للعقارب والثعابين.. أشاكس القرود.. أناوش الراقصين غامزاً لعيونهم الكحيلة.. جاذباً خُمرهم لأرى هل أفواههم مصبوغة (بالروج) أم بالسواك.. أدقُّ الطبل بعنف و حرفنة.. وفي حلقة قصيّة صادفت (دربوكة) فخّارها مزركش كأواني (غريان).. وجلدها مشدود محنَّى. أوقفت الزامر بعشرين درهماً وطلبت من عربة قريبة كتلة تمر معجون.. قرّصتها دائرياً وألصقتها على جلد الدربوكة. ثم لفّحت الجلد على النار. التصق التمر أكثر. والجلد توتر أشد.. رفعت الدربوكة عالياً وأوعزت للزامر بالبدء مصاحبه بنقرات من إيقاع (المرسكاوي) البديع. خلت الدربوكة تخاطبني:

– محمد… محمد.. لولا الإيقاع الشجي الذي انفثه لمزقني الصفع!.

رأفت بها وتخيلت وجهها. فهدّأتُ النقر إلى تمسيد وتمسيح.. ووافقني الزامر بإبطاءٍ قارب العشاق من بعضهم.. وفي السماء تراقص وتلامس السحاب.. وشرع في الامتزاج.. وأدمع وأرعف دماً بارداً.. انتهت وصلة الزَّمير وجمّع الشيخ الدراهم في الطربوش.. وعندما هممت بالمغادرة استوقفني قائلاً: ما ناكلوا أرزاق العباد.

كشط قرص التمر من على جلد الدربوكة.. قسّمه لقيمات اشتراها السواح برغبة.. ثم أعاد لي العشرين درهماً ونفحني حفنة مال لا بأس بها.. يبدو أنني لفتُّ النظر.. الكثير أحسّه يراقبني بفضول.. لمست رأسي فلم أجد ريشة! ربما لمسي أعمى من كثرة التبصيم.. وفجأة جذب ذراعي عجوز ملتحٍ تفوح منه رائحة التبغ والمسك، وعلى سحنته أمارات شبه وقار.. انتحى بي جانباً.. طاوعته وكأنه أبي جذبني من السبخة.. تأمل عيني كأنه يعرفني مذ زمن.. بادلته ذات النظرة.. تناول يدي: ( فيه كنز ديالك).. وتناول يدي الأخرى دافنها بين راحتيه.. مازالت عيوننا متلاقية.. سحابتان تتراودان على وشك العناق.. يارب.. يارب.. وأمرني بترك الرب والتزام الهدوء والصمت.. أغمض أكثر.. أكثر ما تتذكر والو.. أي حد بجاه الصالحين.. حتى معشوقتك قدرية انساها دابا.

لا أدري كيف طاوعته في فعل الإغماض.. لا أجد تفسيراً ألبته.. أربكني بذكر قدرية في لحظة حرجة، كنت مانحه روحي آنذاك.. كيف أقتنص اسمها من خبيئات السحاب. شبّاح سابر هذا العجوز!.. بعد حوالي دقيقتين من تداعياتي استشُعرت شعرة تحاول التسلل من بين أهدابي.. تتطاول.. توخز خالي وبؤبؤي وتفر سريعاً من نقيع الدموع.. تنقر بياض عيني وتفر.. تحاول إزاحة الانسدال.. غير أنَّ سواتر اللحم ثقيلة.. جاهدت وعجزت. أغرورقت عيناي.. وكان لزاماً أنْ افتحهما للنور.. للهواء.. لا شئ غير صخب الساحة وبشر ليس بينهم العجوز.. ازداد وخز الشعرة. شعرت أنها ترويني برحيق الانتباه.. فركت عيني ومسحتهما بكُمِ معطفي.. جددت النظر حولي.. لم أجد العجوز ولا حقيبتي. أعدت النظر في الأرجاء.. غير موجود.. كأنَّ المُداسة قد ابتلعته.. أو امتصته السماء.. جلت متفرساً في الوجوه محيطتي.. ربما يكون العجوز يمزح، أو برنامج (كاميرا خفيّة) وإذ طال انتظاري.. يئست.. وابتسمت متقبلاً الفاجعة بروح رياضية.. تلك الإسفنجة التي غرسها في وجودي ذلك المدرب الكروي (خميس الفلاح).. المصيبة الأنكى أنَّ الخاتم الأثري المزين إصبعي هرب دونما شعور به.. وتعالى ضجيج داخلي.. ضاع خاتم أجدادك.. فرطت في بكارة التاريخ، صفقت كفاً على كف.. والآن ها قد صرت أضحوكة جامع الفنا.. لا مال.. لا متاع.. حتى حبيبتك لن ترى صورتها.. لن تستحضرها على لمعان خاتمك الطاهر.

كانت الشمس قد غربت.. وارتفع أذان صلاة المغرب.. المسامع تشنّفت.. حتى أسماع النصارى واليهود والبوذيين والملاحدة أرهفت.. ما عدت أرى السحاب.. وقمم الثلج تحولت إلى تهويمات عاتمة.. يدثرها سحاب غامق.. لا أثر لقدريّة فيها.. دخلت المسجد وحذائي في يدي.. وجوربي مدكوك فيه.. أثناء الصلاة.. كان الإمام ذو البرنوص يتلو: (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر…….).. وكانت عيناي تذرفان في صمت أخرس.

مقالات ذات علاقة

خـطوتان.. إلى الأمـام

مـا وراء الحـب

محمد العريشية

الـعَـرُوْس

عبدالرحمن جماعة

اترك تعليق