من أعمال التشكيلي محمد بن لامين
قصة

حارس الصخرة

من أعمال التشكيلي محمد بن لامين

 

1

… بعضنا وصل إلى هذه الدنيا فوجده فوق صخرته.. لا أحد يتذكّر منذ متى وهو يقف مثل الفزّاعة فوق هذه الحيطة.. ما الذي يجعل شخصاً يكرّس حياته الفانية للعيش فوق صخرة..؟ ما الذي يحرسه..؟ هل هذه الصخرة الجامدة ــ التي خدّدتها الأمطار ــ تستأهل كل هذا العناء..؟ لعل تحتها كنزاً مطموراً.. فالصخور الكبيرة التي تسد أفواه الأودية لا تخلو من الأسرار.. ولكن ما فائدة الكنوز التي نستهلك أعمارنا في حراستها فقط..؟! أسئلة نطرحها على أنفسنا مراراً حتى مللناها.. دون أن نعثر لها على أجوبة.

2

… يستلقي غفير الحيطة في آخر الليل.. تنتظم أنفاسه.. وما إن يضع أحدنا أصابعه على الصخرة حتى يلذعه السوط الطويل في الظلام.. (ألم أقل لكم بأنني أملك عيوناً في الظلام..؟! لدي عيون حتى في قفاي..؟!).. ذلك جعل أهل قريتنا يخيفون به أطفالهم الذين يرفضون تناول الدواء..!
حتى أثناء المطر لا يغادر صخرته.. يقف مقروراً مرتجفاً.. ينحني للعاصفة.. حين تثلج يتحوّل إلى تمثال أبيض.. في تلك اللحظة نقترب.. نتأمل الوجه الجامد.. البارد.. ولمجرّد لمسة خفيفة للصخرة التي يدثّرها الثلج.. ينتفض التمثال.. يطرقع السوط الطويل وسط انهيار جليدي..!

3

… يقول بكثير من الزهو وهو يقلب شفته: (صخرتي.. حيطتي)..! في الأيام المشمسة يقوم ببعض الحركات البهلوانية والشقلبة.. حين يعتريه الملل يدلّي رجليه ليرينا حذاءه من الأسفل..!
عندما يكون في مزاج رائق ينادينا.. يسمح لنا بأن نلتقط معه الصور.. تتحوّل الصخرة في بعض الأيام إلى محجّ.. وتحتلّ صخرته خلفيّة صورنا.
لا أحد يجرؤ أن يقترب منه أكثر مما ينبغي.. إلاّ حين نأتيه بوشاية.. لذلك كنّا نختلق الوشايات: (جاري الذي على يميني بصق وهو ينظر إلى صخرتك).. (الكلب المبقّع بالأحمر الذي مرّ بالقرب من صخرتك هذا المساء لم يهزّ ذيله كما تفعل الكلاب الأخرى).

4

… وجوده الأبدي فوق صخرته الناتئة في حلق الوادي بدا يبعث على السأم.. يشكّل استفزازاً.. (هناك خطأ ما ينبغي تصحيحه).. جُملة لم نعد نردّدها همساً.

5

… نتجرّأ.. نقذفه من بعيد بالحجارة.. والأحذية.. نقترب.. يفرقع السوط.. ندور حول الصخرة.. نحاصرها.. نلوّث جدران الصخرة بالشتائم.. والكتابات الداعرة.. رأس السوط الذي يشبه لسان الأفعى يلسعنا.. يترك ندوباً سوداء على أصابعنا.. ندفع الصخرة بأكفّنا.. بأكتافنا التي يلهبها السوط.. لكنها لا تتزحزح.. نابتة.. نأتي بجرّافة ضخمة.. فمها واسع بأسنان مدبّبة.. لا يُجدي معها السوط اللاسع.. تنطح الصخرة.. فتتمايل.. تميد.. تترنّح.. تتزحزح.. تنقلع.. تتدحرج.. ترتفع الزغاريد.. صيحات التكبير.. الصراخ.. تنحدر الصخرة مع مجرى الوادي داهسة في طريقها حتى شجرة الشماري المثقلة بعناقيد العجّور.. تتوارى الصخرة مع منعطف الوادي.. تغيب في ظلام الغابة.. ونتنفس بعمق…

6

… لا شيء.. لا شيء تحت الصخرة سوى بعض الحلازين.. والخنافس.. وبوبريص.. ثم نشمّ رائحة كريهة.. نتلفّت.. نتصفّح وجوه بعضنا تحت وطأة الإحساس بالحرج.. من الذي أطلق كل هذه النتانة..؟! وفجأة.. تتشقق الأرض.. تتصدّع.. تنفجر نافورة سوداء من مقلع الصخرة.. يندلق السواد اللزج.. على الوجوه.. على الأيدي.. على الملابس.. وتسيل مع مجرى الوادي العفونة المعتّقة منذ ألف عام…

7

… نتبادل اللوم.. والشتائم.. نتقيّأ ونحن غارقون في اللزوجة.. وفي حلق كل منّا سؤال: (أهذا هو الكنز الذي أفنى حياته لحراسته بسوطه الطويل الحارق..؟!).

8

… لا أحد يعرف أين اختفى حارس الصخرة.. بعضهم قال بأنه انجرف مع صخرته.. بعضهم قال إنه ذهب إلى الوديان المجاورة.. بعضهم أكّد إنه لايزال موجوداً في وادينا.. أخذنا نبحث.. نفتش.. نمشّط كل حنايا الوادي.. وحتى تحت ثيابنا.. أجسادنا تتنمّل ونحن نحس بأنه لا يزال داخل معاطفنا المبلّلة بسواد المجارير…
***
(2015)

مقالات ذات علاقة

جلد

ناجي الحربي

هشاشة…

أحمد يوسف عقيلة

طفولة

غفران جليد

2 تعليقات

مهند شديد 3 يوليو, 2018 at 15:55

القاص أحمد يوسف عقيلة
أسم مميز في عالم القصة الليبية والعربية، يكتب قصة بدون زوائد.

رد
المشرف العام 4 يوليو, 2018 at 03:03

نشكر مرورك الكريم.

رد

اترك تعليق