يجيء المساء ، تزحف العتمة على قصر المنار، تقاومه ثريات السقف بمصابيحها الخجولة ، تغادر الزائرة العجوز الصالة حيث تنتشر صور الشهداء المعلقة على الجدران ، تتباطأ بخطوها ، شيء في أعماقها يشدها إلى الخلف ، تدور إلى الوراء ، تمرر أصابعها فوق زجاج الصورة . . تقبل ابنها الشهيد الذي يتوسط وجهه إطار صورة يبدو فيها كاشفا عن أسنان انفرجت لتبدو مثل ابتسامة وضاءة حينا ، أو تكشيرة الم خفي حينا آخر ، انحدرت من عينيها دمعتان حارقتان ، سقطتا على بساط الصالة ، تنصرف من دون ان تشعر بالضجيج الصادح بالقاعات لأخرى ، يغادر الحاضرون ، بشرفة القصر المطلة على ميدان الثامن من أغسطس يتراءى خيال الملك ادريس يلقي بيان إعلان الاستقلال من دون صوت ، ثم يتلاشى خياله ببطء إلى ان يختفي ، يسود الصمت ، كان لم يكن بالقصر احد ، تغيب أصوات المثقفين ، وأعضاء مؤسسات المجتمع المدني . والسياسيين ، والشعراء بعد ان افرغوا ما في جعبتهم من حوارات ، وآراء ، وقصائد ، تتثاءب كائنات علي الوكواك الحديدية ، تتبادل خوذاتها العسكرية المثقوبة ، تشهر أسلحتها ، تصرخ ديناصوراته. وزواحفه ، وسلاحفه ، تصخب رقصاتهاالحديدية بجنون ، تتوالى أصوات انفجارات عنيفة عبر شوارع المدينة النائمة وسط ليلها، تدب كائنات الوكواك نحو جميع مداخل القصر ، تهز الأبواب ، من كل الجهات لاقتحامه ، خوذات صدئة ، بنادق معكوفة ، قنابل يدوية ، أحذية بالية ، جنود من حديد يتمايلون لا أعين لهم ، لاملامح ، يحتك بعضها ببعض ، يطرقع الحديد. يصطك…داخل القصر الصامت وسط ظلام دامس يتكوم الشهداء المقتولون …. تكتظ بهم الصالات، كانوا محاصرين داخل القصر ، تسجنهم براويز صورهم المسمرة على الجدران ، تنزف جراحهم من جديد ، يتحسسون مكامنها ، يتألمون ، يصرخون وسط الدماء ، لا احد يستمع اليهم ، الدماء تتدفق من دون توقف . تغدو المدينة بحيرة من الدم تجوبها كائنات علي الوكواك الحديدية ، لتتوغل عبر الشوارع ، والميادين .والازقة ، والبيوت .
_____________________________
.. علي الوكواك فنان تشكيلي ونحات ليبي قام بداية ثورة السابع عشر من فبراير بتجميع مخلفات الكتائب العسكرية من خوذات وأحذية وقنابل وآليات وأسلحة ونحت منها كائنات حديدية ترمز إلى بشاعة آلة الموت وأقام معرضه بقصر المنار ببنغازي .. أما قصر المنار هو الذي اعلن منه الملك ادريس رحمه الله بيان الاستقلال .ويعتبر من المعالم التاريخية والثقافية للمدينة .