تمنيت أني دمغة لا لشيء إلا لأني رأيتها تلعق الدمغة بلسانها لتلصقها على شهادة ميلادي.
أخذت شهادة ميلادي وأنا أشتمُّ رائحة أنفاسها على طابع الدمغة.
كانت تلك هي أهم وثيقة في حياتي، وأوثق مهمة في عمري.
لو لم أخرج من الدنيا سوى ببعض ريقها على شهادة ميلادي لكنت أهم مخلوق يعبر هذا الزمان، وأفضل إنسان يمر بهذا المكان، وأجدر كائن بالخلود.
منذ ذلك اليوم وأنا أعتبر تاريخ ميلادي سنة ألف وتسعمائة وبعض ريقها.
عدت في اليوم التالي لأستخرج شهادة ميلاد أخرى. لم يكن بي حاجة إليها، ولكن فقط لأراها، صوبت عينيها عليَّ، قتلتني، ثم رمت بجثتي في بحر عميق.
كان يفصل بيني وبينها شباك حديدي وعقدين من الزمان، وسنوات ضوئية من الحسن والجمال!
وفي اليوم الثالث جئت لأعيد الكرة، ولكن هذه المرة ليس لكي أراها وإنما لكي أُبعث من جديد، وأستعيد روحي التي سلبتها، أو على الأقل لكي لا أمشي بين الناس جثة هامدة، هل سبق لك أن سمعت عن جثة تمشي؟!
وقفت في الطابور أنتظر دوري وفراغ الصبر يحدوني، والقلق يرافقني، وآلام وهواجس ومخاوف تنبعث في داخلي وتأبى الخروج!
وصلت إلى الشباك، وليتني لم أصل!
كانت مفاجأة..
لا.. بل كانت كارثة جعلتني أحصل على دمغتين بدل الواحدة، ولكن هذه المرة في الرأس!
عمك مخلوف بشنباته التي اصفرت من أثر التدخين، يحيط بصلعته شعر منكوش، يبدو أنه لم ير مشطاً من أمد بعيد، بعض أسنانه غادرت فمه تاركة فجواتٍ يُرى من خلالها لسانه، لكن إحدى أسنانه لا تزال تتشبث بغلافها الذهبي على الرغم من أنه فقد بريقه وصار لونه نحاسياً كلون القدر الذي سرقته من أمي وبعته للنحَّاس بدينارين ونصف، ولم تزل أمي تذكره حتى وافاها الأجل.
وجود عمك مخلوف – الله لا تخلف عليه- في مكانها لم يكن مصيبة واحدة، بل مجموعة من المصائب تظافرت وتآلفت وتحالفت لتشكل ما يشبه القنبلة الانشطارية.
الأولى أنه يجلس مكانها، وأظن أن شيئاً من عطرها قد التصق بثيابه التي لم تحظ بأي نوع من العطور باستثناء (القرمباصة) التي كانت زوجته تتعطر بها في بداية زواجها، قبل أن تستبدلها برائحة البصل والثوم.
الثانية أنه حال بيني وبين مرادي، فقد كان أسوأ من شباك الحديد، على الأقل شباك الحديد سمح لي بالرؤية، أما هو فقد حرمني دين أم الرؤية!
الثالثة أنها لن تعود، فقد انتقلت إلى مكان غير معلوم، هذا ما قاله لي أحد المراجعين بعد أن سرد على مسمعي سيرة عمك مخلوف، وأنه أقدم موظف في السجل المدني، وأن السجل المدني رفض استقالته خشية حدوث ربكة في السجل بسبب غيابه، لكنه لا يدري حجم ومقدار الربكة التي أحدثها في حياتي بسبب وجوده، وهذه النقطة بالتحديد كان ينبغي أن تُضاف إلى سيرته الذاتية!
الرابعة أنني صرت أكره كلمة شهادة ميلاد، فكلما طُلب مني شهادة ميلاد أتهرب، وذلك حتى لا أرى عمك مخلوف، لأنني صرت أكرهه بمقدار حبي لها!
الخامسة أنني لا أعرف إلى أين انتقلت، ولا أعرف مكان إقامتها، ولا حتى اسمها!
…….. ولا يزال البحث جارياً، والغصة باقية كبقاء عمك مخلوف الذي يضع مؤخرته حيث كانت تجلس بالضبط!
2 تعليقات
حكاية جميلة من كاتب اجمل يصيغ الجمل بتقنية عالية واختيار للفظ في مكانه المناسب.
عبدالرحمن جماعة قلم يكتب الجميع وللجميع فكم واحد فينا مر على سجله المدني وعاد به الحال كما عاد بكاتبنا جثة هامدة.
هذه القصة الظريفة والجميلة لها ابعاد واسقاطات مختلفة فهي تعكس واقعا سياسيا بامتياز حيث اللانظام والفوضى وعدم الاكثرات والذي يعكسه عمك مخلوف واجتماعيا حيث رغبة الكثير منا في امرإة تنتشله من واقع إلى آخر .
الإبعاد الاخرى للقصة يمكن تلخيصها في عبارة واقع معاش .
نشكر مرورك الكريم