تـُرى لماذا آثر الفنان ـ( علي ماهر)ـ أنْ يُؤدي ألحانه التي تتغنى بالصباح بصوته، ودفع بألحانه ذوات المضامين الغنائية الأخرى، إلى غيره من المطربين ؟ بهذا السؤال المفتتحي، أبدأ مقالتي هذه، عن هذا الأسم الكبير في تاريخ الأغنية الليبية المعاصرة.
فمن ضمن ما لحّن وأدّى الفنان ـ( علي ماهر)ـ من أغنيات الصباح، أغنية (نورعلى نور) و( يا ماشي صبّح)و( صباح النور)وقصيدة (أحبُّ الربيع) التي عادة ًما تـُذاع في صباحاتنا الندية، هذا خلاف الأغنيات التي تأتي من هذا المضمون الغنائي ممّا أهداها إلى عدة فنانين، مثل أغنية (صباح الخير يا عبد الله)للراحل ” خالد سعيد ” و( أقبل الصبح أنيقاً )للراحل ” محمود كريّم ” وممّا يلاحظ على الأغاني التي أدّاها بصوته، أنها ذوات جُمل موسيقية قصيرة يتقاصر معها النفس، أي بقصد، أنها لا تتطلب من المؤدي أياً كان، نفساً طويلا ً، بل تحتاج منه فقط إلى صوت معبر ومتدرب على الأداء السليم، فيه من الدفء ما فيه، وفيه من النعومة والرقة ما فيه، كما أنها تُغنى على طبقة صوتية ثابتة لاتتغيّر في مقاطعها جميعاً وهي في أدائه، تبدو متوسطة وواقفة بين منطقتي الجواب العالي والقرارالخفيض، حتى في أغنية أخرى له، بدا فيها صوته بهذا المستوى، وهي أغنية (ودّي نقي) التي غناها فيما بعد، الفنان ” علي الشول ” وهذا لا يعني أنّ فناننا، قد استسهل أداء الأغنية الصباحية، لكنه عرف كيفية إيصالها بحرفية وذكاء فنيين إلى المتلقي، معتمدا ً على إمكاناته الصوتية، التي هو أدرى بها من غيره، ما ينمُّ عن أنه مؤدٍ ماهر، لما له من إحساس ظاهر وزخرف زاهر في صوته الجاهر بلحنه الباهر.
من خلال إطلاعي على التجربة اللحنية، للفنان ـ( علي ماهر)ـ تكونت لدي فكرة منذ وقت، مفادها أنه قد نجح نجاحا ً كبيراً في تجديد الأغنية الليبية، بمحاولاته الدؤوبة لمجاراة النهضة الموسيقية التي شهدتها الأقطارالعربية الأخرى، ففي أغلب ألحانه، أراه يعتمد على إيقاع معين، لا نسمعه في ألحان الفنانين الآخرين، نعم هو إيقاع من الصميم الليبي، لكنّ هذا لا يعني البتة، أنه نسج ألحانه على الجملة الموسيقية الشعبية الليبية، فقد ركـّز جل وقته، على كتابة الجملة الموسيقية التي تخصّه بمحبرة ريشة عوده، فوفِـق في المزج بين الإيقاع الليبي والجملة الموسيقية المستحدثة والمستمدة من المقامات العربية المعروفة لدى الكل، وهذا الإيقاع الذي ميّز ألحانه، تجده يقرع بخفة في أغنية (ننسى) بصوت ” مصطفى طالب ” و( قميرة) بصوت ” لطفي العارف ” و(لومي) بصوت الفنان ” فتحي أحمد ” وقد تكون مرجعية اعتماده على هذا النمط الإيقاعي، عائدة إلى أنه أراد أنْ يسبغ على ألحانه الهويّة أو بالأحرى النكهة الليبية، مع أنني أخالفه في هذا التوجه الموسيقي، وأرى أنّ ما سعى إليه، قد وصل إليه أصلا ً كتحصيل حاصل، ومن دون الخوض في مسألة الإيقاع والتركيز عليه كمعول يعتمد عليه في هذه المهمة، فيكفي أنْ تكون المفردة المتغنى بها ليبية النطق، ليتحقق هذا الهدف ضمنيا ً، فقد وقع هنا في مصيدة (لزوم ما لا يلزم)مثله ـ بإستخدام هذا التوظيف الإيقاعي ـ مثل من يخطب بين الناس قائلا ً بأنه ليبيّ، ولسانه ينضح بالعامية الليبية، فهو بهذا التصرف قد يصرف الأسماع العربية عن أغنياته، حينما يجعلها تبدو نشازا ً بين أخواتها العربيات ؛ وهذا ما لم يتلافَ الوقوع في شراكه، حتى في تلحينه للقصيدة العربية الفصحى، فللفنان ـ( علي ماهر)ـ لحن قصائدي جميل، أدّته الفنانة السورية الكبيرة ” ميادة الحناوي ” بعنوان (غنيت لك)ذو جُمل ٍموسيقية كثيفة ورائعة جداً، قام في بعض فواصله الموسيقية – مثل الفاصل الذي سبق المقطع الذي تقول فيه المطربة :
القلــب لولا أن وجدتك لرميته
والحب لولا أن عرفتك لنسيته
أعدت ليّ ما ضاع مني
فكيف ألـقاه ُ أعنّ ِ..
بإضفاء الإيقاع الليبي عليه، ربما ليثبت للمستمع العربي، بأنّ صاحب اللحن هو موسيقي ليبيّ، فلو أنه لم يرشّ نقراته المحلية بأيدي العازف ” مصطفى القاضي ” الذي لا يفارق مقعده على يمين الشاشة، والحاضر دوما ً كعضو لا يستغنى عنه مع الفرق الموسيقية العربية – لأستكثرالبعض على اللحن أنْ يكون ليبيّ الهوية، طالما أنّ المفردة من اللغة العربية الفصحى، وتلاشت معها هويته المحلية، وهذا ما لم يقم به الملحنون الكبار مثل ” الأخوين رحباني ” اللذين كانا إْذا اضطرا إلى التحديث الموسيقي، يلجآن إلى استعارة الإيقاعات الإفرنجية، كـ (التانجو والفالس والسامبا والرومبا)بقصد التجديد في فنّ القصيدة العربية المغناة، أي بتطعيمها بكل ما لذ وأستحِبّ من مثل هذه الإيقاعات الدخيلة على الموسيقا العربية، كما في قصائدهما (لا تسألوني)للشاعر ” نزار قباني ” و(من روابينا القمر) و( سوق القطيع إلى المراعي) وغيرها الكثيرات، مما غنت السيدة ” فيروز”، لكنهما لم يتجرءا على الخوض في غمار هذه التجربة، إلا بعد أن قدّما للمستمع العربي كما ً هائلا ً من القصائد (الكلاسيكية)من دون التلاعب ولا المساس بأصول تلحين القصائد المتعارف عليها عربيا ً، فأنتجا باقة من القصائد الرائعة مثل قصيدة (يا زائري في الضحى) و( ارجعي يا ألف ليلة) مما شفع لهما عند المتلقي والناقد العربيين – فيما بعد – أن يمضيا قدما ً على هذا الأسلوب الجديد في التلحين، الأمرعينه، الذي قام به ملحننا ـ( علي ماهر)ـ مع كلمات الشاعر الراحل “علي صدقي عبد القادر” في رائعتهما (بلد الطيوب)فقد جاءت على لحن مرفود بالمقامات العربية العربية المتعارف عليها من دون أية محاولة منه لإبراز هويّة صانعيها الثلاثة، الذين من ضمنهم المنشد الليبي الراحل ” محمود كريّم ” الذي أنشد من ألحان ـ(علي ماهر)ـ رائعة (قناعك) للزجّال والشاعر” ابن الطاهر “
* إنّ ما يُميّز الفكرالموسيقي للأستاذ ـ( علي ماهر)ـ هو أنه متمكن من أدواته اللحنية، فهو عاطفي المزاج، خصب الخيال، متجدّد الرؤى، بعيد الأفق، دائم التوهج والبحث عن النغمة التي في أعماقه، ولا يحرك في قريحته اللحنية ساكنا ً سوى الكلمة التي تتماشى مع طبيعته وميله الموسيقي، ما جعل ألحانه جواز نجاح لكل مطرب تعامل معه سواء ً من الداخل اوالخارج، وكذلك الشعراء والمؤلفين الغنائيين
إنّ من أهم المعايير الناجحة التي يحتكم إليها لمعرفة الملحن الفذ، هو أنْ يكون نجاحه دائما ً، دائما ً بحيث يمثـَُـل نجاحه مع كم أعماله، علاقة طردية وعلى نحو تصاعدي، لا يصيبها أي انكسار في استقامة الخط ّالمُمثّـَل بيانيا ً للعلاقة بينهما، كما في أية علاقة طردية بين أيِّ متغيرين، بعد أنْ يحدّد لونه ومبدأه الموسيقي من البداية، فإذا أراد التحديث عليه أنْ يستمرعلى هذا النحو، ولا يتراجع عنه، لأنّ التراجع في مثل هذه الحالة، يعني فقدان مشروعه للجدية وإفلاسه المبكر، وانتفاء ثقته بنفسه، وأنه ليس أهلا ً للمهمة التي ألقاها على عاتقه الفني، وهذا ما لم يحدث في تاريخ الغناء الحافل لهذا الفنان منذ انطلاقته الأولى في عام 1967، بتلحينه لرائعة (طوالي)للفنان الراحل ” خالد سعيد ” التي مثـّـلت للمتلقي صعود ملحن جديد، يألوا على نفسه التجديد، وذخيرته في مسعاه هذا، الموروث الذي استفاد من روّاده الأوائل من دون التنكر له، وإلا سيضع فنه في ورشة للتلحين، أحيانا ً تنتج العمل الجيد وفي أحيان أخر لاتصدر سوى الرديء، كما حدث مع الملحن و” ملحم بركات ” و” بليغ حمدي ” الذي بدأ حياته كمطرب ؛ ومن الملحنين العرب الذين انطلق الواحد منهم، مثل السهم الناري من قوسه، ولم يقف عند مستوى معين من الألحان، ولم يتراجع إنتاجه الجيد، ولم تتعثّر خطاه التلحينية، أذكر مثلا ُ ” محمد الموجي ” و” كمال الطويل ” و” منير مراد ” بالإضافة إلى الذين امتهنوا التلحين جنبا ً إلى جنب مع الغناء، مثل ” محمد عبد الوهاب ” و” فريد الأطرش ” خصوصا ً وأنّ الأخير لايستطيع أن يطعن أحد في تفتق موهبته اللحنية منذ أنْ كان صغيراً، حتى وإن أُختلف معنا على منحه صفة المطرب.
16.07.2009