بالمناسبة، في بلاد البغتة والعجائب تمطر السماء بالمصائب و”العصبان” أو تسحبك من أنفك إلى خيمة القائد- سيان، ما لم يكن من الممكنات يحدث لأن إرادة”القائد” فوق كل حساب ولا تقبل الطرح وتقبل الزيادة والضرب ولا تقبل القسمة، جاءني”الشاعر إدريس بن الطيب” رفقة “الكاتب سعد نافو” إلى بيتي في بنغازي، ليبلغاني أن”القذافي” استدعانا إلى خيمته في طرابلس، وأن علينا السفر في التو. أخذتنا”الكاتبة فوزية شلابي” في اليوم التالي إلى القذافي في خيمة بمزرعة بطريق المطار، فوجئنا في الخيمة بالكاتب”الصادق النيهوم” رفقة الدكتور”رجب بودبوس”.
في مساء اليوم التالي أيضا قابلنا القذافي في بيت”عبد السلام الزادمة” من أعد عشاء، وكان الصادق النيهوم في صدارة الجلسة التي كانت أريحية ووضحت العلاقة الخاصة بين النيهوم والقذافي، حيث دخل الصادق النيهوم في محادثة مع القذافي فيها التبسط والمزاح والألفة:”تعرف يا خيي معمر أنهم يتهمونني بتأليف كتابك الأخضر، هذا الكتاب مش ممكن نكتبه وإلا لا؟”، وأخذ القذافي يضحك دون أن يعلق على حديث النيهوم التهكمي، وحينها بدا لي كما لو أن”الكتاب الأخضر” ليس في المستوى الذي يستحق أن يتهم النيهوم بكتابته، وأن النيهوم يتبرأ في حضورنا من هذه التهمة، وأن القذافي يمنح النيهوم هذا الحق كما يمنح السلطان نديمه. لحظتها والساعة ومما طالعته وسمعته تبين لي أن الصادق النيهوم صاحب الكتابة والأفكار في مسودة أعيدت صياغتها دون رضى النيهوم، ولعل لهذا منح القذافي للصادق النيهوم تلك اللحظة الاستثنائية.
• الهيبي الذي وراء كولونيل ليبيا!
الصادق النيهوم النجم ظهر على صحيفة جريدة الحقيقة، ليكتب من هلسنكي عاصمة فنلندا عن الليبيين مقالات ساخرة ومثيرة، ولينشر مقالات صحفية مترجمة أعاد صياغتها، هذه المقالات التي تتناول مواضيع الساعة في تلك المرحلة وتمس القضايا الساخنة من العالم، وفي أسلوب ساخر وتهكمي وطازج ومثير جذب القراء، وتحول صاحب هذا الأسلوب إلي كاتب الصحيفة الأول والمبرز؛ علي يد صحفي قدير هو”رشاد الهوني” رئيس تحرير صحيفة الحقيقة التي تنشر هذه المقالات مسلطة الضوء على كاتبها في شكل صحفي جديد وجذاب.
وحين حققت الجريدة ذلك كان النيهوم قد أمدها بروح جديدة، بأسلوبه المميز من حيث تركيب الجملة التي تغترف من الأساليب الصحفية العربية”البيروتيه” ومن الأساليب الكتابية في الصحف الإنجليزية، ومن الأدب الأمريكي في مرحلة ما بعد الحرب كما تمثل في كتابة”أرنست هيمنجواي” وترجماته العربية علي يد”منير البعلبكي” من ترجم رواية هيمنجواي”الشيخ والبحر” التي كانت إنجيل جيل النيهوم، لقد عجن هذا الكاتب ذلك في تحولات جعلت أسلوبه متميزا ومسبوكا بروحه التهكمية كابن لمدينة متوسطية صغيرة تبدو كما لو كانت ميناء لقراصنة غدوا أشباحا.
كان النيهوم يرسم شخصية كتاباته السردية في شكل رجل عاطل، ليس لديه ما يفعل سوى أن يتكئ في ركن شارع ليرمي المارة بنظرة ساخطة ولسان لاذع، وفي مقالاته الفكرية يبدو كمتفرج استعار باروكة فلسفة العبث السائدة آنذاك التي تكرس مفاهيم اللا منتمي الحصيف.
لقد أشارت- حينها- صحيفة الصن البريطانية إلي الصادق النيهوم- في مقالة صحافية عن ليبيا- بأنه يبدو مثل فيلسوف هيبي: الفيلسوف الهيبي الذي وراء كولونيل ليبيا، وكان الكاتب علي فهمي خشيم قد كتب مقالة بعنوان”الظاهرة النيهومية”.
النيهوم في سيرته غير الموثقة، وغير الموثوق فيها- لأنها مليئة بالثغرات ولأن صاحبها نجم تحول إلى رمز، لهذا حشاها محبوه بما يحبون أن يكون عليه نجمهم الساطع- يذكر أنه حين تخرج من الجامعة الليبية ذهب إلى القاهرة كي يعد رسالة الماجستير ومن ثم الدكتوراه في مقارنة الأديان وأنه اصطدم هناك بالدكتورة”عائشة بنت الشاطئ”، الشخصية المعروفة حينها بكتاباتها في الفكر الإسلامي وأستاذة الجامعة المبرزة، التي كما يشيعون كانت أقل مقدرة من أن تستوعب الأفكار الطازجة والمميزة للصادق النيهوم الذي قفل راجعا، متخطيا البحر المتوسط إلي أصقاع أوربا إلى فنلندا حيث أعد رسالته المفترضة في مقارنة الأديان، التي لا توجد أية معلومات عنها حتى معلومات صحفية ولا أي إشارة من الكاتب لحصوله على هذه الشهادة العلمية.
هذه الشخصية ستترادف مع الكاتب وتمتزج عند المتلقي مع كتاباته التي ستصير أكثر إثارة، والتي جعلت من النيهوم ظاهرة يتزاحم الناس للحصول على عدد الصحيفة الأسبوعية التي تنشر مقالته، وحتى الأمي سيتأبط نسخة من هذا العدد، عند هذا الحد سيقفز الصادق النيهوم قفزة مميزة في كتاباته؛ حيث سينحو للكتابة في الفكر الديني، وقدم أطروحات صادمة في حينها بأسلوبه ككاتب صحفي من طراز رفيع يعرف أصول كتابة كهذه، من سماتها التكثيف المبسط الاختزالى ما يتخذ من الجملة كحامل للفكرة، فيبدو كما لو كان يكتب حكمة في ثوب”مانشيت” صحفي يدير الرؤوس ويبث التأويل ونقيضه في ذات الجملة، ويزيغ النظر بتحريكه لسطح الظاهرة التي يتناولها، كمن يرمي حجارة في بركة راكدة، التي هي في الحقيقة سبخة ماؤها تبخر ولكن سطحها اللامع يوهم بوجود الماء.
النيهوم لاعب في بركة الوحل التي أراد أن يرسم على سطحها علامته المميزة كنجم يعطي بظهره للكرة ويعطي وجهه وعينيه للجمهور. لكن ما يميز هذا النجم أنه لا يستهين بجمهوره ولا بوسائل جذب هذا الجمهور، التي هي القضايا المثيرة التي في الظل ما يسلط عليها ضوءه الخاص الجذاب بتعدد ألوانه.
النيهوم من القلة الذين أثاروا قضايا دينية واجتماعية تبدو كما لو كانت قضايا ميتة مثل قضية المرأة، ولعل أهمها محاولته- في سبق صحفي ومثلا قبل أن يفطن مصطفي محمود لذلك- تفسير القرآن تفسيرا عصريا في دراسته المطولة: الرمز في القرآن.
قبل أن نشير إلى ما أثارته هذه الدراسة من ردود أفعال لا يفوتني أن أنوه بأن النيهوم، القابع آلاف الأميال عمن يكتب عنهم ولهم وعن الصحيفة التي يكتب فيها، كان قد كرس نفسه لشكل من أشكال الغموض حول شخصه وسيرته، وأن الصحيفة التي كرسته كاتبا أولَّ لها، كرست هذا الغموض الذي نبعه ليس القضايا التي يتماس معها، أو المفاهيم التي يتخذها طريقة لأطروحاته الإشكالية فحسب، ولكن قبل ذلك الأسلوب الذي اتخذه، هذا الأسلوب المازج بين الكتابة الأدبية والكتابة الصحفية المطعمة بأساليب الترجمة في حينها، مع مزيج من الرمزية والسريالية والفنتازيا أحيانا، في دأب وجهد لإدهاش القاريء في الجملة قبل الفقرة وفي التراكيب المتجددة دائما، وفي هذا المضمار بذل النيهوم جهدا خارقا استنزف طاقته الفكرية والإبداعية الأهم.
• الرمز في القرآن
الدراسة البوتقة التي دخل منها النيهوم إلى الفكر، والفكر الديني على الخصوص، كانت بمثابة مرحلة ثانية في كتاباته، ونقلة نوعية حيث سيظهر أن النيهوم يعتمد على نقلات مفارقة في سلم إيقاعه لإثارة القاريء الذي هو الشغل الشاغل المشروع عند هكذا كتاب، ولهذا المرسل إليه هو محمول المرسلة وأسلوبها.
توخى بهذه الدراسة إثارة قضايا دينية شائكة؛ اعتبر القرآن نصا رمزيا تأول رموزه بمعطيات لغوية سيمائية، فالنص القرآني نص لغوي واللغة تجريد لصورة واقعية لذا فإن مريم- مثلا- حملت طفلها من خطيبها يوسف النجار… إلخ وكونها حبلت كما هو شائع دون اتصال جنسي فهذا ترميز على طهارة العلاقة المقدسة. هذه مجرد إشارة مقتضبة لموضوع الدراسة، لكن المهم آنذاك ما أثارته من ردود أفعال وسيجنح الكاتب منذ ردود الأفعال هذه إلى الانشغال بها في الكثير من المواضيع التي نشرها.
ولأن عامة الناس يغذون التناقض ويعشقون التضاد فقد ظهر النيهوم باعتباره الغامض السهل، وفي هذه الدراسة بدا وكأنه لا يعني ما يقول ويقول ما لا يعني لهذا جنح قراؤه إلى تزكية آرائه في مواجهة خصومه.
ومن هذه اللحظة المفارقة سيضع النيهوم رجله على عتبة الباب الذي يحب، فقد كان خصومه رجالَ الدين المحافظين ومن في حكمهم، والنظام الملكي الليبي آنذاك أسسه هؤلاء أو أنهم على الأقل أهله بحكم أن للدولة الليبية علاقة بالحركة السنوسية الدينية الإصلاحية بالتبعية، وأن ملك البلاد مؤسس الدولة هو وريث لزعامة هذه الحركة، لكن الملك إدريس السنوسي كما تشير شخصيته يميل إلى جناح التحديث في نظامه وإن بشكل خفي؛ فتكوينه في قصره في مصر فترة شبابه وتواجده وسط النخبة المصرية المستنيرة وعلاقته المبكرة بالإنجليز ساهم في هذا التكوين.
لهذا يذكر البعض أنه حين طالب علماء الجامعة الإسلامية بمحاكمة- أو ما يشبه ذلك- الصادق النيهوم، كان حينها الشاب”عبد الحميد البكوش” يبلغ من العمر 32 سنة وزير العدل ثم رئيس الوزارة، فيما بعد يطالب أساتذة الجامعة والطلبة والنخبة المتنورة أن تعاضد النيهوم في كتاباته هذه؛ حيث أن الدولة لا تستطيع ذلك لأسباب معروفة، ولهذا أوقف نشر هذه الدراسة فقط وأعاد النيهوم نشرها تحت اسم آخر وفي صياغة مموهة وتحت عنوان: العودة المحزنة للبحر.
النيهوم الذي يظهر أنه كاتب غير سياسي ستكون علاقته بالسلطة السياسية مشتبكة وشائكة، سيكون هذا الكاتب كما لو كان الجافل عن القطيع، القطيع هذه المفردة التي سيرددها النيهوم في مداخلاته كثيرا، وسيظهر نفسه كمتمرد يلبس(الجينز والتي شرت)، وينظر بغضب لقطيع السلطان وسيضع في نفس السلة كل النخبة الليبية- وحتى العربية- دون تمييز مستثنيا بطبيعة الحال مريديه من الشباب وعامة الناس.
لقد تبوأ مبكرا مركزا مميزا في السلطة حين نالته الشهرة، فغدا بسلطة الفكر رأسا حاسرا ينال مراده بجمهوره الكثير، ولهذا أفصح عن عداء لأعداء افترضهم ومنحهم هذا الدور؛ هم النخبة خاصة السياسية منها وكان رأس شيطانها اليسار بالمعنى العام من قوميين ناصريين وبعثيين ووطنيين وشباب يشده الأدب العالمي الذي كان بحكم المرحلة يساري الطابع.
كما لو كان ملخصا للعلاقة التاريخية بين المثقف والسلطة كان فعل النيهوم ككاتب منذ ظهور هذه الدراسة، كذلك العلاقة بين الكتابة والقارئ الذي يستمد منها الكاتب سلطته خاصة متى تحول إلى نجم غاية غايات أغلب الكتاب، لكن النيهوم على الخصوص منهم كان النجم، وكان الكاتب البارع والمبدع المميز.
_______________________________
نشر بموقع بوابة الوسط