(1)
لن يجد القارئ لديوان الشاعرة ليلى النيهوم المعنون (بمنعطف من شارع DeWolf) (1) صعوبةً في التعرف على انتماء نصوصها القصيرة لقصيدة النثر التي صارت منذ نشر أول ديوان شعر نثري خلال خمسينيات القرن الماضي في أوروبا والوطن العربي، جنساً شعرياً يختص بسماتٍ عصرية يصفها الناقد الفرنسي “جان لويس جوبير” في كتابه “أنواع الشعر وأشكاله” بأنها (الشكل الشعري الذي يرفض الوزن ويفلت من النثر)، مما جعلها تتحرر بها من قيودات موسيقى القوافي العروضية وإيقاعات بحورها التقليدية المختلفة.
كما أن القارئ سيكتشف تفرد تلك النصوص النيهومية بتجاور مفردات اللغة العربية مع الإنجليزية في العتبات الأولى وثنايا سطور معظم نصوصها، التي عبقت بالكثير من المشاعر والأحاسيس المستنطقة من رحم الغربة وشجن الليالي القاسية ومرارة الفقدان، وشذرات همومٍ سياسيةٍ وانشغالاتٍ وطنيةٍ، إضافة إلى سيمفونيات أنياط قلبها التي تعزفها مع بزوغ شموس النهارات الدافئة ورقصات الروح المنتشية بالفرح والابتهاج رغم مرارات الأشواق وسطوة الحنين وقسوة الزمن وسياط حزنه العميق.
لقد ظلت المفردة العربية في معظم نصوصها تتجاور مع الإنجليزية فتستلقي أو تنزرع وسط القصائد وبين سطورها بكل دلال وسلاسة، وأحياناً تستعين بها وتتكئ عليها للتعاضد في نقل المعنى أو إكمال الصورة الفنية، لوصفها بدقة أكثر وتفصيل مكثف محدد، أو للتعبير عن حالة اللحظة الشعرية ذاتها وكأنها مصطلح لغوي يختصر العديد من الكلمات.
إنَّ وجود الكلمات الانجليزية بغزارة في تلك النصوص الشعرية لا يشي بأن العربية قاصرة أو عاجزة عن القيام بدورها، أو ضحالة قاموس الشاعرة “ليلى النيهوم” اللغوي وافتقاده للتعبير عمّا يتناسب وسياقات النصوص أو الصورة الشعرية من كلمات ومفردات عربية، ولكنه – كما أزعم – إشارة إلى أن الشاعرة تتنفس طبيعياً برئتين، وتتعامل عفوياً بلغتين، وتخاطب لسانين، وهو ما تكشفه سيرتها الذاتية ومسيرة معيشتها وتنقلها بين بلدها الأصلي ليبيا وموطن إقامتها في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية.
ولكن هذا الإنزراع والتجاور اللغوي حد التلاصق يجرنا لطرح سؤالٍ جدير بالبحث فيه وهو: لمن تكتب الشاعرة نصوصها؟ هل للقارئ العربي، أم للقارئ الأجنبي المتكلم باللغة الانجليزية، أم للإثنين معاً؟
لا شك أن القارئ العربي أحادي اللغة، غير العارف بالإنجليزية، لن يكون الأمرُ سهلاً عليه لفهم تلك النصوص الشعرية العربية المفتتحة عتباتُ عناوينها الأولى بمفردات إنجليزية أو الساكنة في متونها، حين يكون غير ملمٍ بها، ولذلك فإنه سيفقد الكثير من عذوبة النصّ ودلالاته ورسالته ومعانيه، وبالتالي فإن قارئ ديوان الشاعرة ليلى النيهوم (بمنعطف من شارع DeWolf) لابد أن يكون متمكناً أو ملماً باللغة الإنجليزية التي أكملت بعض مفرداتها مع العربية الصورة الفنية الشاملة للنصوص بشكل مشترك ومتوحد.
وحول خاصية ثنائية اللغة التي انصبغت بها معظم نصوص ديوانها الأول تقول الشاعرة ليلى النيهوم في حواري القصير معها رداً على سؤالي حول توطين مفردات إنجليزية لمشاركة المفردات العربية في نصها الشعري العربي: (فعلاً. وقد أشارت إلى ذلك الدكتورة أمينة المغيربي أستاذة الأدب الإنجليزي في قراءة لها لديواني. ولأنني أكتبُ الشعر بالإنجليزية أيضاً فيحدثُ هذا التمازج الشعري الهجين (Hybrid) الذي لا أدعيه ولا أتباهى به، وإنما يخرج عفو الخاطر. ولعل مقامي بين اللغتين هو السبب، فقد كانت العربية تخرج مني أيضاً أثناء الحديث بالإنجليزية مع الأصدقاء هناك مما كان يحرجني.)
وحين مرّرتُ إلى الشاعرة سؤالي الثاني: طالما أنتِ تكتبين الشعر حتى باللغة الانجليزية فهل تُضمِّنين نصَّكِ الإنجليزي مُفرداتٍ عربيةٍ كذلك؟
أجابتني قائلة: (سؤالٌ مهم. لم يحدث، لأنَّ أغلبَ نُصوصي الإنجليزية قديمة حين كنتُ على حافة اللغة الإنجليزية ولم أتعمق فيها. والغريب أيضاً أن ثلاثة نصوص جديدة وهي قصيرةٌ جداً لم يتح فيها ذلك. أحللُ لك الأمر من تجربتي مع الأمريكان، على الأقل مَنْ خالطتُ منهم، فثقافتهم بسيطة وبالكاد يعرفون جغرافيتهم، وليست لديهم ثنائيات لغوية إلاّ فيما ندر. وربما من مخالطتي تعلموا بعض العربية، بعكس العرب لديهم الثنائية اللغوية بحكم التاريخ الاستعماري وحديثاً بحكم الانفتاح التقني. والجدل يطول في هذه المسألة وأنا مدركة لها تماماً رغم أنني في الواقع لا أتحدثُ بغير العربية ولم يلتوي لساني إطلاقاً.)
إجابةٌ ذات مبرر منطقي، ولكن يبقى الكثير في جعبتك للرد على السؤال نفسه الذي يمثل أهمية لمتابعي نصك الابداعي!
(أكيد. هو سؤالي لنفسي أولاً. قصيدةُ اليوم في سلسلة تأملات رمضانية كتبتها مباشرة على الفيسبوك ولعلني أعشق كلمة “كاموفلاج Camouflage” لأنها عنوان مخطوط مجموعتي الشعرية بالإنجليزية، وهي كلمة واسعة وذات دلالات كبيرة وكتابتها بالحروف العربية لا تُجدي في نظري. الكلُّ صار يعرف الإنجليزية ويذهب مباشرة إلى المعنى ومن لا يعرف عليه أن يبحث. ربما التقنية أثرت فيَّ أيضاً، ففي قارئي الكندل الإلكتروني خاصتي، كنتُ أقرأُ الكتب المرتبطة بالقواميس والإحالات وكنتُ أقفُ عند الكلمة المبهمة وأغوصُ في عوالمها عبر الروابط المتاحة في الكتاب الإلكتروني).
وعندما حلق بنا الحوار في فضاءات قصيدة النثر قالت الشاعرة ليلى النيهوم: (أعتقد أن قصيدة النثر انتشرت في أوساط عالية الثقافة ومن ثم فمن يذهب عمداً إليها حتى وإن اعترضته كلمة أو جملة بالإنجليزية لا يعرفها قد تثير فضوله لن يتعب في الاستعانة بقوقل Google.com
، وبالتالي يكون له سبق الفوز بكلمة جديدة. كما أود أن أعلمك أنني وجدتُ مخطوطاً قديماً لي كنتُ قد قدمته لوزارة الثقافة زمااااااان وكان ثمة وعدٌ لطباعته في الخارج، ولعل تم إرساله وضاع مع ما ضاع، المهم أنه بالإنجليزية، واكتشفتُ أنني كنتُ أطعمها بكلماتٍ إيطاليةٍ وفرنسيةٍ تبعاً لمكان القصيدة ولغة المكان. أحياناً لا يمكنك وضع اسم شارع أو فاكهة إلاّ بلغتها حين لا مرادف لها بالإنجليزية مثلاً، وكذلك الحال مع العربية. كما لا يفوتك أن العربية دخلتها كلماتٌ إنجليزيةٌ وغربيةٌ كثيرةٌ. أعتقدُ أنَّ العولمة والتقارب العالمي الأقرب من القارات والدول لعب دوراً في مسألة اللغة خاصة والثقافة بشكل عام. الجيل الجديد -لو تلاحظ – لديه هذه الازدواجية. أنا لا أُحبُّ أن أحشرها أو أبالغُ فيها، لكنها في أوقات تكون ضرورةً حين أُحسُّ أنَّ النصَّ حائرٌ ويحتاجها كي يمضي في سياقاته.)
(2)
من واحدٍ وسبعين نصاً ضمها ديوان (بمنعطف من شارع DeWolf) ظهرت عناوين تسعة نصوص باللغة الانجليزية هي: Photography Phase، Cannery Row، Garden street Inn، Sequoia Park، Ranunculus، Bakersfield، Ochre، The Voice، Dewolf، لتشكل 34% من مجموع قصائد الديوان، وهي نسبة كبيرة نوعاً ما. وقد استهلت الشاعرة ليلى النيهوم مصافحتها الأولى للقارئ بالإقرار أن الحروف والكلمات هي إبداعاتُ فضاءات بوحٍ وتعبيرٍ وحياة، وأن صوتها الفكري والعاطفي الذي تشكله تلك الحروف والكلمات يسكن صفحات هذا الديوان وهو ما أكدته مفردة الإشارة (هنا) للتعيين والتحديد حين تقول في (بدء):
(هنا تنتظمُ حروفي
إبداعها غيرُ متلفتٍ) (2)
وتضيف بعض التوضيح والشرح في (إفصاح) لوصف صورة اصطفاف وتكوينات عالم نصوصها الشعرية:
(سأفصح قليلاً
ورويداً مثل دوائر
تتبارى نحو الضفاف
حالما يقع حجر الفهم) (3)
وهذا الاستهلال الجيد يؤسس لعلاقة إيجابيه في تعاطي الشاعرة مع القارئ بكل تمهل وصبر لخلق نوع من الانسجام الثنائي وتهيئته فكرياً ووجدانياً للتفاعل مع نصوص الديوان، بدلاً من ممارسة نوع من التعالي أو الأستاذية. وفي جانب آخر فهو يبرز أسلوب الشاعرة في التعامل مع الآخر بكل شفافية ترتكز على الاحترام والمنطق.
ولم تكتفِ الشاعرة بإهداء ديوانها (إلى شقيقي خالد في عليائه) (4) بل ضمّنته نصاً صريحاً باسمه (خالد) جاءت سطوره حزينةً قلقةً، مكتوبة بزفرات أنين وآسى، ومكتظةً بدموع غزيرة صامتة، وعدة عناصر مكانية ربما كانت تجمعهما بذكريات خاصة، أو لها دلالات معينة ترمي إليها مثل (وادي مرقس، الوشز المعلق، الكعبة)، بالإضافة إلى مواقع تواصل تكنولوجيةٍ عصريةٍ (واتس اب، إنستجرام، فيسبوك) ونجدها في سطور النصّ تجهش بمرارة الفقدان وانعدام الحيلة في التكيف مع غيابه المفجع:
(افتقدكَ
يا إلهي
وتلك الحسرة كيف أهشكَ من أيامي؟
أفلتها في فلوات السهو
ذلك الغل يا أبتاه حريق
ذلك الغيظ يا شقيقي ليس بكظيم) (5)
وظل طيف شقيقها المغدور يلقي بظلاله على العديد من النصوص الأخرى سواء المكتوبة داخل ليبيا أو في أمريكا، مما يؤكد مدى التأثر والحزن وعظمة الفقد التي تكابدها الشاعرة، وكأن ديوانها كله ملحمة رثاء مهداة إلى روح شقيقها الطاهرة:
(ذاك البابُ البعيدُ النازحون عنه
“المعتول”
“المهلوت” منه كُلّ ما سبق
يطرقه أخي
أركضُ لأفتحه
أنصتُ لعصفي
يعصفُ بي لهف عليهم
وزمني ذلك
يا حادي شعث قوم الأرخبيل المتنافر إلى طللٍ
بيتنا رحل جابرُه العظيمُ
وخالدُه خلد) (6)
(3)
إلى جانب تلك الخصوصية المميزة في علاقة الارتباط الشخصية الحميمية مع شقيقها، فقد سكنت نصوص الديوان أمكنة عديدة توزعت بين قارات آسيا وأمريكا وأوروبا وأفريقيا شهد بعضها ولادة نصوص الشاعرة كما وثقته في ذيل كل نصٍّ منها، والبعض الآخر ظهر في متن النصّ ليكون أحد عناصره الدلالية أو بؤر سياقاته الوصفية، حيث تستوقفنا (بنغازي، قاريونس، طرابلس، وادي مرقس، الهواري.. وغيرها) في ليبيا، و(كلوفيس، سان رامون، كانبري رو، سان لويس أوبيسو، سان فرنسيسكو، لومافيستا، سيليكون فالي، سيكويا بارك، بيكرسفيلد، الامرسون، سانتا انا… وغيرها) في ولاية كاليفورنيا والولايات المتحدة كافةً، وأوروبياً (اسطنبول وقونية) في تركيا و(الكعبة) في السعودية و(سير الضنية) في لبنان، و(تونس) عربياً.
ونلاحظ تأثير الأمكنة على الشاعرة وقوة سطوتها عليها يتجلى أثناء زيارتها لمدينة “قونية” في تركيا وهي موطن أشهر الشعراء الصوفيين جلال الدين الرومي وملتقى رفيق روحه شمس الدين التبريزي:
(وجدبتُ مع شمس الدين من تبريز
على اتساع فستاني الأحمر
وميول طربوشي اللبادي المغازي
طوال المسافة من “قونية”
كعادتي: يدٌ لأرض النازحين
ويدٌ للسماء
حيث تصطدم دعواتُ قومي بعضهم على بعض) (7)
وبهذا الحضور الوافر في وجدانها تمنح الشاعرة الأمكنة أهمية مميزة للهيام بها والانصهار حد المشاركة في نسج نصوصها، أو استنطاقها وبعث ذكرياتها الماضوية مجدداً في الزمن الراهن، أو استلهام بعض الأفكار والذكريات منها، الأمر الذي يجعلنا نقول بأن سطوة المكان عليها ذات فاعلية كبيرة لا تتوقف عند موطنها ليبيا بل تتعداه إلى كل بقعة زارتها. كما استطاعت الشاعرة أن تجعل المكان محركاً ذهنياً واستحضاراً لأمكنة أخرى متداخلة معه، وأحداث عديدة قد تتعالق به أو تنفرد بخصوصية معينة مثلما نجده في نصها الجميل (Cannery Row) الذي تنقلت بنا انطلاقاً من أركان المقهى إلى أمكنة وفضاءات ومعالم خارجه، ناسجة أمنيات متعددة تتأبطها وترحل بها بحثاً عن “شيتاينباك John Steinbeck” الكاتب والأديب الأمريكي الشهير بقصصه حول الحرب العالمية الثانية، ثم تصغي إلى همسات أصوات بلهجة “سيشيلية” في إشارة ربما إلى مهاجرين أفارقة من جزيرة “سيشل” بالمحيط الهندي، أو إيطاليين من جزيرة صقلية المعروفة “سيشيليا” بالبحر المتوسط، وأيضاً تستدعي أسطورة الحارسة المرعبة “ميدوسا” الليبية، لتكون حاضرة معها في “كلوفيس” الأمريكية، ورغم حرارة الطقس الملتهبة حينذاك، وبُعد المكان الجغرافي عن وطنها “ليبيا” فإن وجه شقيقها “خالد” ظل يطوق خيالها ويستوطن قلبها وكلَّ كيانها الفكري والعاطفي ويعصف في أعماقها بكل وجع الفقد ومرارة عدم مبالاة الآخرين برحيله غدراً.
(أكتفي بسيلفي وحيدة
تعبت في زواياها
بحثاً عني بلا تجاعيد
ولا عضون ألمٍ متعمق في جبهتي
لعلّ عيني أكثر غوراً
لعلّ ثقبَ أذني استطال
لعلّ أخي الجميل رحل مغدوراً
ولا أحد اهتم) (8)
(4)
بالإضافة إلى ثنائية اللغة وسطوة الأمكنة يتضمن ديوان (بمنعطف من شارع DeWolf) عدة عناصر بلاغية فنية مثل تقنية التناص التي تستهل بها الشاعرة أحد نصوصها حين يظهر جلياً واضحاً على السطر الأول بقسم مقتبسٍ من النص القرآني مع التحوير يهتف به المتكلم:
(وحقِّ الصُبْحِ إذا تنفَّس
وقميصكَ ذو المربعاتِ الصغيرة)(9)
وكذلك الاستعانة بالموروث الشعبي كما نراه في اقتباسها العبارة الشهيرة “حادي بادي” للتخيير والمفاضلة العشوائية بين الأشياء حين تقول:
(على أرفف مكتبتي تغريني العناوين المستجدة
فلا يظل أمامي غير حادي بادي)(10)
وأيضاً في موضع آخر تضمنه أغنية شعبية متداولة لدى الأمهات عندما تناغي الوليدة أو الطفلة:
(كيف لي أن أغني لها لتصفق جذلى:
صفق صفق بابا ايجي أيجيبلنا م البر أجدي)(11)
(5)
انزرعت بثنايا نصوص الديوان العديد من الأسئلة التي وظفتها الشاعرة لإثارة المشاعر أو تحريك عقل القارئ في اتجاهات متعددة أو التعبير عن قلقها واضطرابها ونقل تلك الانشغالات إلى ذهنه:
(كيف انطلى
كيف للماء التستر على التيار التحتي
وللحتف حث الخطى إليه) (12)
وكذلك حين ينبعث من أعماقها صوت المونولوج الداخلي:
(ما الضير إن كدستُ من الكتب الــ 6 بدولار) (13)
كما تنثر بعض التأملات الفلسفية المنبعثة من أسئلة الفكر:
(ما الذي يملي الحروف؟
مَنْ يلقنها لأصابعي) (14)
وعند جلد الذات واللوم والعتاب للوطن جراء ما يعانيه من تشظي وصراعات:
(كيف أتملصُ من ركامك داخلي؟
كيف اقتلعني منكِ؟
كيف أسمع اسمك كأي غريب عابر؟) (15)
إن حضور الأسئلة في نصوص الشاعرة لم تبدو ثقيلة أو متكلفة بقدر ما كانت تتفجر في فكرها ضمن سياقات موضوعاتها التي تبحث فيها عن لحظة بوح وبارقة أمل وخلاص. وبالتالي فإن إيقاع الديوان لم يكن هادئاً في معظم نصوص الشاعرة ليلى النيهوم بل نجده مضطرباً هائجاً فكرياً أحياناً تعصف بها العديد من الأسئلة القلقة حول الكيفية والقدرة فتقذف بها في متاهات العجز والارتباك، وهو اعتراف وإعلان عدم الفهم أو المعرفة والبحث عن كيفية الفعل والتصرف:
(كيف لي أن أتقن استقراء أحبابي بها؟
كيف لي أن أمد الطريق صحبة أسماء إلى أن أعلن أنني هنا؟) (16)
(6)
وحين ترتفع درجة التوتر تظهر حالة التذمر والرفض واضحة عند الشاعرة مقرونة باللعنات المتكررة للواقع البائس:
(اللعنة
منتهى اللعنة أن تعيش هذا الزمان المستنقع
أن تغوص فيه
من أخمص وجودك
إلى قمة بؤسك) (17)
وفي عتابها القاسي لبلادها “ليبيا” تسيطر عليها الروح الانهزامية في نصها (عتاب) فينبعث متعالياً صوت أسئلتها المتمردة على الصمت لتصفع بها حالة الفوضى التي آلت إليها البلاد، وتقرع العقل الإنساني مستفهمة حول المسؤولية الأخلاقية والتاريخية تجاه الوطن والأجيال القادمة:
(كيف سيقرأ الأحفاد صمتك؟
كيف يتكيفون مع ماضيك الدموي؟) (18)
(7)
اللافت في الديون أن عدداً من الشخصيات ظلت صورها متكررة ومحركة تسهم في تخلق النص الشعري لدى الشاعرة أو اقتياده إلى مسارات وسياقات تنسج بها صورة فنية متكاملة. وإن كان حضور والدها جاء عابراً ومقتصراً على جزئية معينة، ومحدداً بعنصر واحد وهو (بيتُ أبي) الذي تقول فيه:
(من خصاص الشباك تسري الياسمين
عطرها بيت أبي
طرقة أخي على الباب
هناءة عشيات قاريونس
والوطن
وأنا هنا) (19)
فإن والدتها ظهرت متكررةً بكامل كيانها الإنساني مادياً ومعنوياً، لغوياً ودلالياً، وهي تشير إليها في نصها (أمي):
(صوت دموعك تراجيديا زمن التغول
نحيبك على الفايبر
آه قلبي مجرى نهر جاف
رُوزنامة فقدٍ
كل تواريخها صواري ابتعاد
أماه يا أمي يا وجعي) (20)
كما استضافها نصها (مصاب) القصير جداً بصورة فنية مكتظة بالشمولية والرمزية تمثلها عناصر الكرة الأرضية والكون والنجوم وتمنحها حركية الدوران فاعلية مستمرة في ديمومة دلالات الأمومة ومعانيها القيمة ومعاناتها القاسية:
(عندما تبكي أمي
تتوقف الكرة الأرضية عن الدوران
ينصت الكون بوجوم) (21)
وفي نصها الختامي (حبك مخطوط) برزت شمولية مضامين الديوان بجميع أركانه وأهم شخصياته التي احتوت أفراد العائلة كافةً (الأب والأم والأخ والبلاد والوطن) مرتبطة برؤى استفهامية عميقة، وهي بقدر ما تحمل مرارة المعاناة فإنها تترك أبواب الأمل مشرعة ضمن تخمينات على مفترق الوطن والحياة كافة، تتلبسها هواجس ومخاوف بجانب تطلعات مشرقة حالمة:
(فيا أمي
ويا خالد
ويا أبي الحبيب
ويا بلادي
هل كنتم ذلك الحلم؟)(22)
(8)
رغم عددٍ من الأخطاء والهنات النحوية وبعض الغموض الذي اكتنف صوراً تعبيرية ومفردات لغوية قليلة، فقد زخر الديوان بأسماء النباتات كالأقحوان الأصفر والبقرعون والخرشوف الربيعي الذي اختصته بعنوان أحد نصوصها (قعمول)(23) وأسماء الروائيات والشخصيات مثل الكاتبة الانجليزية فيرجينيا وولف (Virginia Woolf) التي تعتبر من أيقونات الأدب الحديث للقرن العشرين ومن أوائل من استخدم تيار الوعي كطريقة للسرد، وعناوين اللوحات الفنية التشكيلية مثل (Dark umber) و(Ivory black) ولوحة (البحيرة الآسنة) للرسام العالمي فان جوخ، وعناوين لموسيقى حزينة مثل blues، وأمكنة عديدة وشوارع من أبرزها شارع (DeWolf) الذي جعلته عتبةً أولى وعنواناً شاملاً للديوان ومظلةً تحتضن جميع نصوصه:
(كيف وأين ولماذا
هكذا بدون سابق ترتيب
في بيتٍ بشارع إدجار آلان بو
بمنعطف من شارع دي وولف
ويا للمصادفة
هل فاتك التقاط الاشارات؟) (24)
بالإضافة إلى احتواء الديوان العديد من التعبيرات اللغوية والمفردات الانجليزية والأفكار المستوردة من لغة أخرى وبيئات إنسانية مختلفة عن العقلية والأفكار المعاشة في ليبيا، وغير ذلك كثير، ولكن رغم كل ذاك التنوع في مكوناته ومحتوياته ومفرداته والتي زادته ثراء وزينة شكلية ومضمونية، فإن الأبرز فيه هو ثنائية اللغة وسطوة المكان بكل تعالقاته وارتباطاته خارج النص وما يحمله من عشق وحنين للوطن ووجه المغدور (خالد) وابتسامة قلبه التي لا تغيب.
وفي جانب آخر يعكس الديوان تجارب حياتية ومعاناة ومكابدات وتحديات شخصية عديدة واجهتها الشاعرة عبر أزمنة طويلة تفاعلت معها بكل كيانها الحسي العاطفي، والعقلي المدرك لما تتعرض له البلاد، والوطني الغيور على ليبياها وتطلعاتها الحالمة بتحقيق الاستقرار والازدهار والتي كما كتبت في اهداءها لي بتاريخ 21 فبراير 2022م (هذه البلاد التي نبتغي لها الرفعة)، وكلُّ هذا احتضنته نصوص الديوان فجسدت وأثبتت فعلياً انتمائها لجنسها الإبداعي كما أوردته في نصها (قصيدة نثر) مما يجعل المثل العربي الشهير(وافق شن طبقه) ينطبق عليها تماماً في إشارة إلى احتضان قصيدة النثر لكل البانوراما التعبيرية وألوان وجماليات تطريزها الشكلي الحداثوي بكل تقنياته الفنية والموضوعية:
(يكفي أنَّني نبتُ اللُّغةِ
التي تنمق شِعرها جدائلُ الحداثة
وعلى أجفانِها الوسنى
نثرُ الحُروفِ
لمعانُ المعنى)(25)
هوامش:
(1) بمنعطف من شارع Dewolf، ليلى النيهوم، شعر، دار الجابر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، بنغازي، الطبعة الأولى، 2021م
(2) بمنعطف من شارع Dewolf، ص 7
(3) المرجع نفسه، ص 8
(4) المرجع نفسه، ص 5
(5) المرجع نفسه، ص 11
(6) المرجع نفسه، ص 56
(7) المرجع نفسه، ص 40
(8) المرجع نفسه، ص 16
(9) المرجع نفسه، ص 88
(10) المرجع نفسه، ص 55
(11) المرجع نفسه، ص 96
(12) المرجع نفسه، ص 13
(13) المرجع نفسه، ص 50
(14) المرجع نفسه، ص 20
(15) المرجع نفسه، ص 63
(16) المرجع نفسه، ص 57
(17) المرجع نفسه، ص 58
(18) المرجع نفسه، ص 62
(19) المرجع نفسه، ص 67
(20) المرجع نفسه، ص 73
(21) المرجع نفسه، ص 104
(22) المرجع نفسه، ص 105-106
(23) المرجع نفسه، ص 18
(24) المرجع نفسه، ص 101-102
(25) المرجع نفسه، ص 68