المقالة

رشاد الهونى… رحيل إلى المستقبل

 

فجر الثاني من أكتوبر 1993 انطفأ قلب رجل اسمه رشاد الهوني. كان الصبح يقارب على التنفس. توقفت رحلة قامة وطنية كبيرة وموهبة أصيلة وتجربة مليئة بالحركة والحياة تجلت فيها على الدوام صورة رشاد الإنسان. المثقف والكاتب. الصحفي الذى أجاد أصول مهنته. الصديق للجميع.

رحلة طويلة بدأت عام 1937 قطعها الرجل بلا توقف وبكثير من الحب والمعاناة، وكان خلالها يرنو بكل ثقة وصبر إلى المستقبل دائما. بدأ حياته الأدبية شاعرا. قصائد ومقطوعات جميلة بعضها تغنى به مطربون ومطربات من ليبيا والوطن العربي ثم وجد نفسه في القصة القصيرة. شغف بها ونال جوائز عن بعضها ثم أخذته المقالة منهما وصار من أكبر كتابها أسلوبا وعرضا وطرحا للموضوعات والقضايا المهمة على المستويين المحلي والخارجي.

ثاني قصصه كتبها ونشرها أواخر عام 1961. كان عنوانها (رحلة إلى المستقبل). في أكتوبر من ذلك العام صدرت ليبيا أول شحنات البترول إلى العالم. القصة صورت ببساطة حياة وواقع مجموعة من العمال خلال وجودهم في البريقة (الميناء الذي انطلق منه التصدير) داخل خيمة إقامتهم في معسكر العمال بعد انتهاء ساعات العمل. يتحدثون ويتسامرون آخر الليل حول موقد النار والشاي.. ويحلمون بالغد المأمول. مصباح وزملاؤه في تلك الخيمة. أحدهم يقول: (خايف من ها البترول يضيع وما يلحقنا منه شي!) فيما تمر بسرعة الذكريات القديمة عبر الأحاديث.. المعتقلات التي شهدها المكان في فترة ماضية أيام الطليان.. البريقة والقهر والموت. مصباح العامل النشط حين سمع النقاش والأمنيات تذكر مباشرة مقتل والده من قبل أولئك الطليان قرب الموقع الذي تنتصب فيه الخيمة. ربط من الماضى للحاضر. تذكر سؤاله لأحد الشيوخ من أقاربه.. أين ذهب والده!. أجابه: ذهب في رحلة إلى المستقبل. مستقبلك أنت يامصباح.

المستقبل والغد الواعد. تواصل الأجيال. التاريخ والحاضر. والأسئلة: كيف ستصير ليبيا بعد تفجر البترول. بعد تصديره. بعد تغير ملامح الحياة الاجتماعية والاقتصادية.. حياة الناس. كيف ستنهض من أثقال التخلف الذي يرين عليها وتنسى الماضى وتجتاز ألغام التأخر وتمضي نحو المستقبل.

كانت القصة تختصر هموم رشاد وجيله والأسئلة الحائرة المعلقة في السقف. روح المستقبل ظلت تتوهج في عطاء رشاد الهونى.. شعره وقصصه ومقالاته. كانت كلها تعكس شخصيته وموضوعه. كلها ملزومة واحدة ترى إلى المستقبل.. إلى الغد. لم يكن رشاد في الماضى. استفاد منه وتعلم، لكنه ظل يكتب بروح المستقبل وبروح الحب والمعاناة. النظرة البعيدة الواعية. الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين. وتجاه مستقبل أولاد وأحفاد الوطن. كان رشاد يعيش في المستقبل.

فى عمله شابا بالجامعه الليبية الوليدة ثم فى مجال البترول، اشتغل رشاد بهذه الروح الصادقة ومع الناس كان يتخطى واقعه وزمنه الذى يعيش ويحمل مثل أصدقائه الأحلام والأمنيات العريضة. وكانت الحقيقة – الصحيفة – الحلم الذى وضع حجر أساسه شقيقة الأكبر وأستاذه محمد البشير الهونى عام 1964 خطوة متقدمة نحو المستقبل أيضا. أسهم رشاد فى تنمية هذا الأساس وتطويره والذي كان مستودع الحلم الكبير. الكلمة تصنع المستقبل وتزيل المستحيل. ظل الحلم ينهض ويعلو مع الأيام. صحيفة تصدر أسبوعيا كل يوم سبت من حجرة متواضعة وإمكانيات صغيرة وتواجه صعوبات بإصرار مثل الفولاذ.

وبعد عامين تصبح يومية تزدهي بالإخراج والألوان والمادة والخبر وبالكثير من الصفحات تتحدى الذين لايحلمون بالمستقبل.. تصارع الإشاعات والاتهامات والأقاويل ومحاولات الاحتواء وتثبت نفسها عن استحقاق. وتمضي إلى المستقبل. وتضحى ملتقى للعديد من الكتاب والقراء من كل ليبيا. مقر حديث ومطبعة ومحررون ومراسلون وأرشيف المعلومات وصور مباشرة من العالم تضع المواطن داخل الوطن في الحدث نفسه. في قلب العالم من طرابلس وبنغازى والمرج والخمس ومصراته وسبها.. وكل المدن والقرى. تتابع الحقيقة والمستقبل. وتعقد صلات مع المسؤول في كل المواقع كبير وصغير.

تخلق علاقة بينه وبين المواطن تتحسس مشاكله ومعرفة نبض أحاسيسه اليومية. كانت الحقيقة نبضا للوطن ومشروعا للمستقبل. تلك رسالة الصحيفة اليومية التى أتقنها رشاد صاحب المهنة الأصيل فهو يعرف تماما أن: (الصحيفة اليومية لاتصدر يوميا أصلا إلا لغرض المتابعة الفورية لما يحدث في الوطن خاصة وفي العالم عامة من أحداث سياسية واجتماعية واقتصادية وعلمية في كل متناسق لا تطغى فيه ناحية على أخرى إلا بمدى أهميتها وتأثيرها. وأن الصحيفة اليومية تصدر يوميا لأنها تملك شئيا جديدا تقوله وليست تقول الأشياء لأنها مضطرة للصدور. بمعنى أننا لانكتب لكي نصدر بل نصدر لأننا نملك ما نريد أن نكتبه ونناقشه. والصدور يوميا ليس غاية في حد ذاته، بل وسيلة لمتابعة النقاش وتبادل الرأي بصورة مستمرة ودائبة. فإذا لم تجد الصحيفة شئيا تناقشه وتعرضه على الناس وتسمع آراءهم فيه فإنها بالتالي لاتحتاج إلى الصدور يوميا.

إن الوسيلة لايجوز أن تصبح غاية بالنسبة للصحافة.) وذلك ماكتبه بشجاعة في مذكرة طويلة مؤرخة فى 9 ديسمبر 1971 موجهة إلى أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة في ذلك الوقت الذي طلب فيه من أصحاب الصحف المستقلة تغيير هوية صحفهم من سياسية إلى فنية او رياضية او علمية أو ادبية أو إلى غير ذلك من التخصصات. وصار ذلك واقعا مؤلما حين تطبيق الصحافة الجماهيرية وفقا للنظرية والكتاب الاخضر!!!. ثم قالت المذكرة الشجاعة: (السياسة في العالم كله وفي بلدنا بالذات لاتغطي الميدان الدبلوماسي فقط، بل تمتد أيضا إلى جميع الميادين الأخرى في حياة الفرد. إنها توعية له وتعريف له بمشاكله العامة وبأصدقائه وأعدائه وماضيه ومستقبله وواجبه تجاه أرضه وشعبه. والصحافة التي تضطر إلى تجنب هذا كله تتجنب في الواقع كل شيء).

كان ذلك حلم رشاد صاحب المهنة. المستقبل الجميل لليبيا التي عاشت أيام الحاجة والفقر. كان حلما ليبيا محضا. انتماء لليبيا وكيانها وتاريخها انطلاقا لمستقبل يصنعه تجدد أجيالها مع توضيح صريح للثغرات وكشف للأخطاء والسلبيات. والمستقبل ظل في نظر رشاد وجيله لايمكن تحققه بدون شخصية الوطن والمواطن. بدون مقومات الوجود والحرية والصراع والتحدي. الوطن يبنيه أبناؤه. الوطن فكرة كبيرة شاملة ينبغى أن يحتضنها الجميع. الوطن هو المستقبل دائما.

رشاد والحقيقة والمستقبل معا في كل خطوة. في كل نفس من أنفاسه المتلاحقة فيما قامته تعلو مثل نخيل هون والحلم يكبر وهدير الآلات يقطع سكون بنغازي في الليل المظلم لتخرج الحقيقة مع الشمس.. مع الصباح. تخرج من الظلام إلى النور.. إلى المستقبل يعانقها المواطن والمسؤول بعينيهما دون فرق في كل مكان ويتفاعلان معها.

كانت تناقش مشاكل المواطن وتقترب منه وتصل إليه وتعزز الثقة فيه وفى شخصيته. تحاور المسؤول. تغطي أخبار الوطن والعالم. وتنشر القصيدة والقصة والمقالة والصورة واللوحة والدراسة وتعطي مثالا قويا على أن الموهبة الليبية لاتقل عن غيرها شأنا أو مكانة وتستطيع أن تنجز المستحيل وتحلم بالمستقبل مثل الآخرين.

المستقبل حلم الوطن ورشاد وكل جيله وكل مخلص ضرب بشراسة. تناثر قطعا وداسته الأحذية واتسع الظلام وابتعد المستقبل عن الخطوات المسرعة والحالمة. نكوص بالوطن إلى الوراء بقوة. وفى يناير 1972 بعد أيام من اجتماع ذلك العضو في القيادة الذي كان رئيسا لمحكمة الشعب. ضُم رشاد وزملاؤه فى المهنة على امتداد ليبيا قفص الاتهام. كان المتهم الثاني فى القضية رقم 9 لسنة 1970. وأخذوا يواجهون بشجاعة تلك المحكمة ويدافعون عن الحرية والكلمة والوطن والمهنة والصحافة المستقلة. يواجهون خصما وحكما في ذات الوقت. أغلقت الحقيقة مع أخريات بحكم صدر بعد أسبوع من جلساتها.

أغلقت الحقيقة وأوقفت عن الصدور ولم يعد ممكنا الاستمرار في الحلم أو بأي شيء آخر. كانت المحكمة تحكم المستقبل والغد المنتظر وتضع عليهما فيتو وشمعا أحمر. أغلقت الصحافة المستقلة وسدت معها نوافذ مشرعة على عيون الوطن ثم طلب رأس السلطة من رشاد أن لايبقى في ليبيا بعد يوم طويل من التحقيق والاعتداء في معسكر الحرس ببنغازي. قيل له إن العقيد لايريدك هنا. وذلك شيء طبيعي: المستقبل والعقيد لايلتقيان. وكانت الإقامة في لندن وفي القاهرة. أطلق جريدة العرب أول صحيفة عربية تصدر في لندن ثم مجلة الغد. يستمر الحلم بالغد والتواصل مع المستقبل. من يملك الآن حلما للمستقبل في ليبيا بعد اشتداد الضربات الشرسة على رأس الوطن؟!.

كان رشاد قامة صحفية وطنية حقيقية. كان أكبر من القفص والاتهام. لم يكن ذات يوم من عيال المهنة أو مرتزقتها. لم يكن دخيلا على الحرف والكلمة والحبر والورق وهدير المطابع. كان صاحب موهبة أصيلة تملك مشروعا وحلما حقيقيا للوطن. وفي كل ذلك.. في كل الحلم وأطرافه وألوانه يلوح رشاد الهوني كبيرا وعاليا. قامة تبقى بامتداد الوطن وإن تغافل عنها الغافلون أو المغفلون.

قامات الوطن العملاقة مثل رشاد الهوني وأمثاله الشرفاء.. حلمت بالمستقبل للوطن ولم تحلم بالجوائز أو الكؤوس الصدئة اْو الشهادات الباهتة التي تعلق بلا معنى في كل مكان. تلك القامات ستظل شامخة في ذكراها وغير ذكراها مادام الوطن.. مادام المخلصون رغم العيال والأقزام والجوائز المضحكة!.

_______________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

لم يزل في الأرض متسع.. كلب معاوية في رفقة معاوية

محمد دربي

حكايتي لأحفادي بعد خمسين عاماً..

أحمد يوسف عقيلة

القبيلة العميقة

منصور أبوشناف

اترك تعليق