قصة

جريمة وعقاب

إهداء: للشاعر الأديب الكبير مفتاح العماري

الحرب (الصورة: عن الشبكة)
الحرب (الصورة: عن الشبكة)

1

الحركة في المعسكر على غير المعتاد.. هناك أمر ما يدبر.. الجنود يصطفون في صفوف منتظم.. الضباط يقومون باستعراضهم وتفحصهم.. أوراق كثيرة تفحص وتراجع.. بدا الجنود يرتابون بما يجري أمامهم.. تهامس البعض للبعض:

  • هناك شيء ما يحدث
  • عساه يكون خيرا.
  • الخير بعيد جدا عن هذا المكان.
  • يبدو أن موعد ذهابنا إلى الجبهة قد أزف.
  • فال الله ولا فالك يا مفتاح.

2

كانوا في أعماقهم على يقين بأن هذه الإجراءات المشددة لا تعني إلا ما قاله مفتاح حرفيا.. لكنهم يحاولون إبعاد هذه الفكرة عن أذهانهم.

خيم صمت ثقيل خاصة أن ضابطا كبيرا وقف أمام صفوفهم ليستعرضهم بدوره..

الآن تأكدوا ان أمر سيئا سيحدث قريبا.

3

على مكتبه انشغل قائد المعسكر بالرد على اتصالات هاتفية لا تنتهي.. لم يشعر بالضابط الواقف أمامه ينتظر فراغه من كل تلك الاتصالات.. كانت كلها تحمل أوامر جديدة ومستعجلة لابد أن يلقيها بدوره على ضباطه وعليهم أن يسارعوا بتنفيذها دون مناقشة.

   أخيرا توقفت الهواتف عن الرنين.. تنفس الصعداء.. أشعل لفافة تبغ.. سحب منها عدة أنفاس متتالية بشراهة.. تعالت سحابة كثيفة فوق رأسه.. ما أن انجلت حتى تبين الضابط الواقف أمامه.. منحه الإذن بإشارة من رأسه بقول ما جاء من أجله.

 قال بسرعة قبل أن ترن الهواتف مجددا.

  • سيدي جئت لأخبرك بأمر هام.

توقف عن إشعال لفافته الثانية ونظر للضابط باهتمام فقد حملت له الهواتف الكثير من الأخبار والأوامر الهامة.

  • هات ما عندك بسرعة.
  • سيدي من بين الجنود الذين سيلتحقون بالجبهة اليوم شاعر!

4

تجمدت يد الضابط بعد أن أشعل قداحته.. ارتفع لهب القداحة وتراقص مع أنفاسه المتسارعة.. أشار لمحدثه برأسه طالبا إعادة ما قاله.. ارتبك قليلا خشية غضب مسؤول المعسكر.. لكنه تشجع مكررا ما قاله:

  • في معسكرنا شاعر يا سيدي.

أضاف بعد ان استمد شيء من الشجاعة:

  • ونحن في طريقنا لأرساله إلى الجبهة.

أشعل أخيرا لفافته.. سحب نفسا طويلا وأرسل سحابته قبل أن يقول:

  • وماذا في ذلك؟.. ليكن شاعرا أو مطربا أو حتى…. أليس جنديا؟
  • بلى يا سيدي.. إنه جندي.. لكنه شاعر أيضا.

شعر المسؤول برغبة ملحة في صفع هذا الضابط الذي يزيد من تعكير مزاجه.. لكنه تحامل على نفسه خشية أن لا يكون قد استوعب ما يرمي إليه الضابط الماثل أمامه.

خيم صمت بينهما.. كانت صيحات الجنود الحماسية تصل إلى مسامعهم من الساحة المجاورة.

5

سحب نفسا من لفافته قبل أن ي   في المطفأة التي امتلأت بأعقاب السجائر:

  • ماذا يعني وجود شاعر بين الجنود؟.. أرى الخوف مرتسم في وجهك.

حاول أن يبدو طبيعيا قدر استطاعته.. أشار له المسؤول بالتقدم والجلوس على المقعد المجاور لمكتبه.. قال بعد أن استقر جالسا:

  • تكمن خطورة الشاعر في شعره يا سيدي.

بدا واضحا أن المسؤول لم يستوعب بعد ما يرمي إليه ضابطه المرتبك.. اشعل لفافة جديدة.. وبعد أن نفث سحابتها في وجه الضابط قال مستوضحا:

  • لم يعد أمامنا وقت نستهلك في الهراء.. افصح عما تريد قوله.
  • سيدي القائد.. تكمن خطورة وجود شاعر في الجبهة أنه سينقل ما يراه هناك في قصائده..
  • وماذا يعني ذلك؟
  • يعني الكثير يا سيدي.. فما يحدث في الحروب عادة ما يدفن في الصدور.. لكن الشعراء صدورهم أضيق من أن تتسع لحفظ ما يرونه هناك.

ران الصمت مجددا.. أصوات الجنود الحماسية خفتت في الساحة المجاورة.. أطرق القائد مفكرا.. قال هامسا:

  • وهل في ذلك خطر علينا؟

أشار الضابط برأسه قبل ان يهمس بدوره:

  • هؤلاء الشعراء لهم قدرات غريبة في نقل ما يريدون قوله بأشعارهم ولهم تأثير على المثقفين ويمكن بقصيدة واحدة أن تقلب الموازين وــ

أشار له بكفه ليصمت.. تلفت حوله وهمس مجددا:

  • وهل هذا الشاعر من ذلك النوع؟
  • يا سيدي لا تأمن لمن حباه الله ملكة قرض الشعر مهما كان صغيرا.. لأنه سيكبر مع الأيام ويمكنه استخراج ما خزنته ذاكرته.

أشعل لفافة جديدة.. ناول واحدة للضابط الذي اخذها على استحياء من قائده:

  • وكيف اكتشفته؟
  • حدث ذلك أثناء إحدى نوبات الحراسة الليلية وكنت أقوم بتفقد الوحدات.. فاقترب من موقع ناءٍ في أقصى المعسكر دون ان يشعروا بي سمعته يترنم بقصيدة من قصائده على اسماع رفاقه.
  • وماذا فعلت؟..
  • وماذا يمكنني ان أفعل يا سيدي؟.. لا شيء.. ابتعدت عن الموقع.
  • كان عليك أن تخبرني حينها.
  • يا سيدي حينها لم يكن الأمر خطيرا.. أما الآن فالأمر يختلف.

6

لفافة أخرى ارتفعت سحبها الكثيفة لعنان سقف المكتب.. عادت صيحات حماسية من الجنود في الساحة المجاورة تملأ خلفية المشهد الصامت بين الضابطين.. أخيرا دهس اللفافة قبل ان تكتل في منفظته التي امتلأت بالكثير من الاعقاب المختلفة العمار.. قال بعد أن تنهد في حيرة:

  • هل تتعاطى الشعر أيها الضابط؟

ارتبك الضابط قبل ان يجيب رئيسه:

  • في الحقيقة يا سيدي كنت أفعل ذلك.. لكني توقفت منذ سنوات طويلة.
  • لكنك تحن إليه على ما يبدو.
  • فليعذرني سيدي.. بين فينة وأخرى أقرأ بعض القصائد.. لكني لا أنظمه الآن..
  • ما السبب يا ترى؟
  • يا سيدي الشعر كيف علي ان اصفه لك يا سيدي.. إنه حالة شعور.. ربما علي ان أقول هو انفعال داخل النفس يظهر على هيئة كلمات.. ينظمها الشاعر كما ينظم الجواهرجي حبات العقد.. كل لكمة في مكانها المناسب لتظهر الحلية بشكلها النهائي جميلة وعبرة.. ربما علي ان أقول ـ
  • لا داعي فهمت ما ترمي إليه.. ويختلف شكل النظم حيب مهارة الجواهرجي.. أقصد الشاعر.
  • نعم يا سيدي..
  • وكيف تقيم هذا الشاعر.. أقصد الجندي؟
  • يا سيدي.. الجواهرجي لا يتقن صنع الحلية من أول يوم يدخل فيه إلى ورشته.. بل تتطور صنعته ومهارته مع الأيام.. لهذا توقفت عن النظم..
  • هل كنت تخشى أن تتطور مهارتك؟
  • بلى يا سيدي..
  • لماذا؟
  • يا سيدي على أن أحسن عملي فالشعر يحتاج إلى نفس رقيقة وروح هائمة.. أما الجندية فتتطلب مني نفسا قاسية وروحا وثابة شرسة ومتحفزة..
  • قتلت الشاعر في داخلك.
  • ليحي الجندي يا سيدي.. فالوطن بحاجة للجندي.
  • كما أنه بحاجة للشاعر.
  • نعم.. لكن من الخطر الجمع بينهما.. لهذا جئت أحذرك يا سيدي.
  •  

7

ما العمل الآن؟

ظل هذا السؤال معلقا بينعهما فترة من الوقت.. استغرقاه في تدخين لفافتين جديدتين.. ما أن انتهيا من التدخين حتى أجاب الضابط :

  • أرى أن نبعده عن الجبهة يا سيدي.

عاد الصمت مجددا.. قلب المسؤول أوراقا كثيرة أمامه قبل أن يتوقف عن بحثه ليقول:

  • لكن الأوامر تقول أن نرسل بكل تعداد جنودنا.
  • إذا أرى أن لا نضعه في الصفوف الامامية ولنكلفه بمهام غير قتالية.
  • عندما يختلط الحبال بالنابل فسفلت زمام الأمر.. لن تستطيع التحكم فيه.. وحينها ـ
  • يقع ما حذرتك الآن منه.
  • إذا؟
  • إذا ماذا؟
  • علينا أن نحرص إلا يعود من هناك.

8

اشعلا لفافة أخرى.. تبادلا نظرات حائرة قال المسؤول:

  • عليك أن تهتم بالأمر بنفسك.. هذا أمر.

وقف الضابط ليؤدي تحية عسكرية.. وقبل أن يغادر مكتب المسؤول ناداه:

  • هل تحفظ شيئا من أشعاره؟
  • لا أحفظها ولكني فتشت معداته وضبطت هذا المفكرة.

وضعها بين يدي المسؤول وغادر.

نظر المسؤول للمفكرة مليا الصغيرة القديمة.. كان مترددا كانه يخشى أن لا يكون بين طياتها شعرا بل ماردا.. تناولها بشيء من الحذر.. قلبها بين يديها كأنه يتأكد من هويتها كمفكرة.. فتح أولى صفحاتها.. شرع يقرأ.

مسح عرقا غزيرا احتشد على جبهته العريضة.. شعر بوخزات إبر حادة بين جنبيه.. تململ في كرسيه.. كمن يتفاداها.. بعد عدة صفحات توقف عن القراءة  رمى المفكرة في سلة المهملات:

  • نحسن صنعا بخسارته هناك.

تنهد بعمق.. أشعل لفافته الأخير في علبته.. شعر بارتياح لقراره الذي يخدم الوطن.. لا تزال صيحات الجنود في الساحة الخلفية تصل إلى مسامعه.

خريف 2023 طرابلس

مقالات ذات علاقة

قصص قصيرة جداً

محمد دربي

الرقص أخيراً

المشرف العام

شعور

حسين بن قرين درمشاكي

اترك تعليق