بروين حبيب | البحرين
في تقديم طويل نوعا ما، وثري وجميل اختصر لنا الشاعر والأكاديمي الليبي وأستاذ الكتابة الإبداعية في جامعة ميشيغان الأمريكية خالد المطاوع المشهد الأدبي الليبي، وقد بدا فخورا بالأقلام الليبية، التي عبرت النظام السابق، وحلّقت في سماء العالم أمثال الروائية نجوى بن شتوان (التي نالت جائزة دون فانتي الإيطالية مؤخرا) والكاتب هشام مطر (الذي نال جائزة بولتزر وجوائز عالمية أخرى) وغيرهما ممّن نهضوا بأقلامهم في بيئة مُحاصرة، دون أيّ دعم من النخب السياسية والاجتماعية. ثم قدّم لمحة عن أدب الرسائل وتاريخ المراسلات الإنسانية العريق، مؤكِّدا أن المؤرّخين يعتقدون أن الرّغبة في المراسلات كانت السبب الأول لاختراع الأبجديات، ويبدو ذلك منطقيا جدا، لجعل تبادل الرسائل مسقط الثقافات في حدّ ذاتها. هذه المقدّمة الماتعة ـ التي اعتبرها بحثا أكاديميا مفيدا جدا حول تاريخ المراسلات وأهميتها الأدبية – تسبق عرض لبّ موضوع الرسائل بين عاشور الطويبي وسالم العوكلي. وهما من أعمدة هذا المشهد البديع الذي يعطي صورة تفاؤلية لمستقبل ليبيا، بعد أن انطوت أربعة عقود من الديكتاتورية التي عطّلت الطاقات الليبية، أو أسرتها محليا.
العوكلي والطويبي كاتبان متقاربان في العمر، الأول مواليد 1960، والثاني مواليد 1958، كل منهما مارس الكتابة وفق موهبته، فالأول كتب الشعر والمقالة والمسرح والرواية، والثاني طبيب ورسّام ولديه منجز شعري مهم وسبع ترجمات ورواية واحدة، وقد تُرجِم لعدّة لغات.
بعد ثلاث وستين صفحة والمطاوع يجول ويصول بنا في عوالم المراسلات عبر الأزمنة والأمكنة، يعود بنا إلى العوكلي والطويبي، مؤكّدا أن الكتاب شهادات طويلة عن «الصداقة» وهنا يكمن جوهرها الإنساني الثمين. أول رسالة كما وردت في الكتاب أرسلها عاشور لسالم يوم الأحد 30 يوليو/تموز 2017 من مدينة تروندهايم في النرويج. حديث مقتضب عن الطقس، وطقوس أناس يراهم من خلال نافذته، ثم نصًّ شعري ينطلق من مثنوي الرًّومي:
«أشح بصرَك عن الوردة
إتبع أثر الطّائر الذي حطّ على الوردة ورحل
هل تعرف كيف تجد أثر الطائر في الهواء؟
لن تتبعه بعينيك
لن تتبعه بسمعك
لن تتبعه بأنفك
إن كان قلبك خاليا من الورود
ستتبعه بقلبك، فهو خبير بأثر الطائر»
ومن هنا ينبثق عنوان الكتاب الذي شمل رسائلهما، وتحوّل إلى ما يشبه ثروة أدبية صغيرة، تزخر بالقطع النفيسة، وسيعرف قارئ الكتاب ما الذي أقصده هنا بالضبط عند قراءته. من خلال ترجمة الرُّومي يحلّق عاشور الطويبي في عوالم الشعر كطائر حر بمفرداته المنتقاة بعناية، وهذا يجعلنا نطرح أسئلة مهمة بشأن الشعر، تراه «امتصاص أشبه بامتصاص النّحلة للرّحيق وتحويله إلى ماء حلو؟» وهو السؤال الذي يطرحه سالم العوكلي على صديقه، وهو سؤال محدّد وواضح عن النصوص الشعرية، وربما غيرها، التي تكون نِتَاجا لنصوص أخرى مُلهِمة. في رسالته المؤرخة في 31 يوليو 2017 في بلدة كرسا (ليبيا) يطرح تلك الأسئلة المتعلّقة بالشعر والترجمة، منها على سبيل المثال: «ماذا يمنح الشاعر لمترجم الشعر، وماذا تمنح ترجمة الشعر للشاعر؟» والغرابة تكمن في الجواب الذي يعطينا إياه سالم مستحضرا حديثا دار بينه وبين إيمان مرسال وهي تشهد على سرعة بديهة عاشور في ترجمة الشعر بلغة شعرية باذخة، فسمّاه صديقه بالكائن الشعري بامتياز! غير ذلك يدخل كل منهما في مناقشة موضوعات حساسة، عن شعر المنافي، وشعراء الأوطان الجميلة الخرساء، عن تلك المنافي السعيدة وفق معطيات ضيقة، وعن أوطاننا الجميلة التي تشبه قصائد تلامس الروح، لكنّها مكتومة الصوت!
كل شيء يبدو متدفقا مثل نبع رقراق يصب في سواقي ساحرة، وأحاديث مطوّلة عن قرآتهما التي تشمل الكتب ومنشورات مواقع التواصل الاجتماعي وما تفرزه من نظريات ومعطيات جديدة في عالم الأدب، عن المزاج والتيه والأسفار إلى بلدان تحتفي بالشعر مثل المغرب في مهرجانه السنوي ومدن أخرى.
يشجع المتراسلان بعضهما بعضا على الكتابة، يتقاسمان فقرات من نصوصهما، ومختصرات، ويستحضران معا من كتب ومن علّق عليهما. في كتاب تبدو الأمور أجمل بكثير مما هي عليه على فيسبوك أو تويتر أو غيرهما من مواقع التواصل الاجتماعي. حين يذكر أحدهما الشاعر عبد الرحيم الخصار، أو الروائية نجوى بن شتوان ولو بجملة قصيرة، يصبح حجمها كبيرا ومفعولها أكبر. الأكيد أيضا أن قراءة الرسائل في كتاب لها أثر عظيم في نفس القارئ، خاصّة أن الكاتبين يتبادلان الأفكار على طريقة الكبار في زمن مضى، لقد هشّمت «السوشيال ميديا» صورة الكاتب المهيبة، فأصبح «مستباحا» يطاله التافهون أحيانا بتعليقات تسحق كرامته، وهذا ما لن يستطيع أن يفعله أي «تافه» أمام كتاب، كونه لن يذهب إليه مطلقا. الرسائل أدب موسوعي جميل، لا يتوقف عند عتبات الأمور الخاصة، بل يذهب بعيدا في التطرّق لموضوعات مختلفة، عن الملبس والمأكل والمشرب، عن الكتب والسينما، وعن العادات والتقاليد، عن الصداقات والتأريخ لها ولأحداث معينة، عن الشوق والحنين لأزمان مضت، وأهل احتجزهم الفقر في أوطان غنية، كل شيء يأتي ذكره في الرّسائل، وحين يُكتب بلغة أدبية من الطراز الرّفيع، يقع القارئ في شباك غرامها من أولها لآخرها دون ملل أو كلل.
«أثر الطّائر في الهواء» الصادر عن دار الفرجاني (القاهرة) جسر تواصل عجيب بين كاتب بقي في الوطن وآخر في المهجر، بين الفيزياء والرياضيات والعلوم والشعر والأدب، هذا لا يحدث إلا نادرا في رسائل كان فيها الأدباء موسوعيون أيضا. نكتشف أيضا في هذا الكتاب الماتع، أن الأديب الحقيقي لا تخونه مخيلته أبدا، ولا لغته، تحضر القصة، وتحضر القصيدة كجزء لا يتجزّأ من الرّسالة، بل إن بعض أشعار عاشور الطويبي وليدة لحظة كتابة الرسالة. تحضر الحكمة عند الكاتبين وهما يفكّكان المشهد الثقافي العربي والعالمي على السواء، وفي قول مؤثر يتحدثان عن الموت، فيكتب سالم لصديقه البعيد عاشور: «بسّام حجّار، الذي مات مع محمود درويش، فلم ينتبه لموته أحد، ليست الحياة فقط تشكو من سوء الحظ، لكن حتى بعض الموت يشكو من سوء الحظ». ثم يضيف: «وما الشعر سوى أن نعرف كيف نكتب الحكمة بسذاجة مفرطة». القراءة العميقة للشعر بصمة فارقة في هذه الرسائل، وسأذكر مثالا واحدا عنها كون الكتاب غنيا بها، ففي إحدى الرسائل يرد هذا البيت الشعري للشاعر محمد الفقيه الصالح: «الحديقة لم تعد بعد حديقة / لم يعد ثمة عشب بين الأصدقاء» ويلحقه بتفسير ذكي خبِره خبرة أهل القرى: «حين ينمو العشب على الدروب عند أهل الريف فيعني أن التواصل توقف، بينما اختفاء عشب الحدائق في المدن، يعني أن الحدائق مهجورة، وفي الحالتين ثمة عزلة وجفاء».
وكما يسمح لنا الكتاب اكتشاف المعدن الحقيقي لكل من العوكلي والطويبي، فإن رحلات موازية تأخذنا إلى كل أصقاع العالم، وأحاديث لا تنتهي عن شعراء وأشعار يجتهد كل منهما على نقلها وتقاسمها مع الآخر، وهذا لعمري عمل جبّار يتجاوز ما نعرفه عن «فن الرسائل» فقد أنتج هذان الكاتبان لونا آخر فريدا من الرسائل، تنافي تماما قاعدة عصر السرعة والرسائل المختصرة التي فرضتها علينا وسائل التواصل الجديدة. آخر رسالة تحمل تاريخ 24 ديسمبر/كانون الأول 2021، من مدينة صبراتة، ويبدو أن توقيعها بهذا التاريخ له ألف مغزى، وقد امتزج الجرحان امتزاجا مؤلما بسبب التذكر. لكن الحقيقة تقال، إن مجموع الرسائل على كثرتها وعلى ضخامة الكتاب، كانت باقة جميلة جدا من الجمال والأفكار، وصدقا أعتبر هذا الكتاب نموذجا للكتب التي تغيّر حياتنا ونخرج منها بعد قراءتها ونحن ممتلئون حتى الشبع.
القدس العربي | 20 أغسطس 2023م