1- دخل البستان مترنحاً سكراناً، يبحث عن بيته في ليلٍ دامسٍ، يبحث عن ليل دامسٍ في شرفة بيته، الظلام يحوم فوق رأسه ويغشي غبار الأسى الطافي على وجهه، يغمض عينيه في حلمٍ لا يُنسى يأتيه بين الليل الدامس وبين سرّ المدينة الطاعن السّن، يأتيه الحلم في ثوب الوله المذعور، رأى فيما رأى بستاناً في نكهة عطر الحسان العذراوات، يترنحُ ضحيةً بين الكهولة والسكر، طاب له أن يلهو في جنة النار وينعم بأسرار من نور داجِ الظُّلم يطرد غوائل الدّهر.. يراها في عُسرٍ يماثل الخيال، شجرة رمان يراها في عسرٍ بقطوف دانية حان قطافها، تحرس بقطوفها صحن بيته المنطوي في سكون الشيخوخة دائمة الحركة، رأى أنْ يطوي الدنيا في ركن من نفسه استشفت الضياء..
2- يمشي تحت نقطة ضوء بعيدة خبأها الليل المهتاج للثم ثمار الرمان لعله يرضى ويُشفى، يحتسي غبطته، مذاقها المرّ من الكلام الهامس تحت بُردة الظلام وهو يتهادى بكأسه الشارد.. فرحةُ ريحٍ أرخت شعرها على رأسه، يخطو مترنحا في سبحات الوجود، أسلم وجه نحو بوارق الأمل الحائر..
3- الغيوم شرعت تضع حلتها على باب بيته التماساً لهزيز المطر الشادي، أحسّ بذلك، يبتسم للغيوم.. الليل الدامس في جنح أملٍ حائر يحبو صامتاً ويهدي للطين سجادة الفجر.. ذكريات تمور في رأسه في الليل النزوح بخطوات سريعة، يصغي إلى زمن بواكير حياته والأماني الفرحة، أيقن أنها خيالات في بحر أساها سابحة في آفاق بعيدة..
4- يصغي في صمت عميق لبستان مغمس بذكريات تحاصره من كل مكان وزمان على مدار الليل والنهار، وجهُ يطالع البستان بأنفاسً خاطفة، غيمة تلثم الأرض هاديةً ناعمة، ابتل قلبه بسكينة شراب البدائع، حار في أمر نداءات قلبه فهي تحمل أشواق العمر من عبير الزمن الآمن وآياته الباسلة، يهيم في حلم سامر، يشهد الصبح مستسلماً لخيوط الشمس هارباً من الليل الغميق، أريج من جذوة الصبح تهب فوق رأسه.. يمشي جذلاً يسمع هسيس العشب وصمت الحجارة وقطر الندى.. رفع عينيه نحو السماء فابصر الغيوم غائصة في الليل الدامس، يمشي تحت هيبة الظلام مترنحاً، خَطَرَ له أن يصفق بيديه، خيل إليه أنّه يسمع صوتاً، توقف متجاهلاَ الصوت، لزم الصمت وغرق فيه.. أدرك أنْ الصوت صوت قط يفشي أسراره للقطط بمرارة الانتظار المُوحش في صمت الليل..
5- يمشي بحذائه الثقيل ويكبو فوق العشب والحشيش، أحسّ بغبطة غريبة تنتشل السكرة من نشوتها، قال في نفسه بحرارة ومن غير قلق : علىّ ألا أمشي على هذه الأرض مرحاً مختالاً حتى لا أُفسد طيب هذه الأرض الطيبة الرطبة، تقدم فأصغى لحكايات الدرب وأغانيه العتيقة تتحد الزمن الصّدئ. لم يكن القط ليبالي، الريح تجتاح البستان، فرت منه ضحكة، ثمّ واصل المشي في الفراغ الهش..
6- أبصر الفجر يحمل راياته وهي تهفو لكؤوس الأماني بيومٍ مسكون بشذى العطور يلثم وجه الفجر الباسم.. دخل في نوبة من الصمت للمرة الثانية أو الثالثة، صمتٌ اكتسى ثوب المدينة الطيبة، تنفس بعمق وسمع من بطن صوته كلمات طرية تشبه التجلي العابر بحرية عابرة، أغمض عينيه فسمع نداء المآسي : الأحذية الثقيلة لها أمنيات قبيحة.