المقالة

الثقافة الحارس الأمين للإنسانية

تمثال الغزالة، بميدان الغزالة بمدينة طرابلس.
تمثال الغزالة، بميدان الغزالة بمدينة طرابلس.

 تقول الأسطورة اليونانية القديمة إن حاجة البشر إلى الفن ظهرت بعد أن امتلأ العالم بالشرور وتحولت جنة الأرض إلى جحيم، وسيطرت المادة وطغى التوحش والقسوة في النفس البشرية، فاندلعت الحروب والصراعات والقتل والدمار، وكان بروميثيوس قد حذر الإله زيوس من قوة المعرفة التي امتلكها الإنسان والتي ستصل إلى مرحلة مهولة من التطور المادي على حساب الروح، لتصبح وبالاً على البشر، حتى تقضي عليهم وعلى الآلهة في النهاية.

بروميثيوس الذي انحاز دائما إلى جانب الإنسان وسرق له النار وزوده بالمعرفة، أشار له أن يرسو بالفُلك عند قمة جبل البرناس بعد الطوفان العظيم، ذلك لأن جبل البرناس تعيش فيه ربات الفنون التسعة حيث منبع الأدب والفنون، وأخبره بأن عملية الإنتاج الأدبي هي السبيل الوحيد للخلاص من الوحشية ومن التبعية المادية، وهو الوسيلة للحفاظ على جوهر الروح وارتقائها فوق مستوى البهيمة.  وأنه لكي يكون إنساناً حقاً لابد من أن يمتلك وسيلة الخلاص الخاصة بالإنسان وحده، وهي الفن والأدب.

ثارت ثائرة زيوس بعد أن علم كيف حطت الفلك على قمة جبل البرناس واكتسب الإنسان وسيلة الخلاص، فعمد إلى خطة تختلف عن خططه السابقة القائمة على العنف، وذلك بتقديم إغراءات للإنسان الذي نجا من الطوفان، فإذا ما اتبعها ضل طريقه ونسي تعليمات ربات الفنون، وانخرط في صراع محموم يقضي عليه وعلى نسله البشريّ، ولذلك صنع الإله زيوس امرأة جميلة اسماها (باندورا) وفي ليلة زفافها أهداها صندوقاً جميلا مقفلاً، وشدد عليها ألا تفتح ذلك الصندوق. أصاب الفضول (باندورا) وظلت تسعى وتضج وتتحايل لكي تفتح الصندوق رغم تحذيرات برومثيوس، وحين فتحته في النهاية، قفزت منه كل شرور العالم التي تعادي قيم البرناس وربات الفنون: (العنف، الحقد، الكراهية، الكذب، الخداع، الضغينة، النفاق، الأنانية، …، …..).

منذ ذلك الوقت والعالم يشهد صراعاته بين الشرور التي أطلقتها باندورا من الصندوق، وبين القيم الجميلة التي تنشرها ربات الفنون في سبيل المحافظة على جوهر الحياة الإنسانية في حالته النقية المتوهجة، وليس عنا ببعيد، في عصر النهضة، لم تستطع أوربا أن تتجاوز تخلف عصورها الظلامية السحيقة لولا تحرر الروح الأوربية واستنارتها بالمثل والقيم الإبداعية الخلاقة التي نهضت على النموذج الإغريقي والروماني، والرغبة في إحياء الجمال المتجسد في الميثولوجيا القديمة، كما أن التحولات الفكرية العميقة التي جرت بعد قرون من التسلط الكنسي لم تستطع أن ترسخ مفهوم الحضارة من دون أن تعيد الاعتبار للإنسان من خلال الدور الثقافي للفن وتجلياته في المسرح والموسيقى والشعر والغناء والرقص والرسم والنحت والتمثيل والعمارة، وغيرها من الفنون التي أحيت رميم القارة الأوربية وخرجت بها من الكهوف المظلمة إلى حياة المدنية والنظام.

وبظهور فلسفة الجمال حيث اتسع نطاق تفسير الفن من مفهوم له علاقة بالخير والاقتراب من الحقيقة إلى مفهوم الجمال، بالانتقال من المعنى الحسي للفن إلى نظيره الوجداني، أي الإحساس بالجمال عاطفياً عبر شبكة من الأحاسيس والمشاعر، واتضحت بصورة جلية صلة الفن بالفكر، واتسع نطاق البحث عن الأبعاد الفكرية للفن وصولاً إلى ثيمة مفادها أن الفن  هو المسؤول عن تشكيل منظومة القيم الحديثة وترسيخ المُثل والمعتقدات، وهو المعنِي بتشكيل مضمونها، وإذا كان امتلاك المعرفة الذي أشارت إليه الميثولوجيا قد ساهم في تطوير العالم المادي، فإن الفن  قادر على تطوير ثقافة الإنسان وقيمه وإعادة صياغة منظومة الأخلاق والتعايش بانسجام في المجتمع. وهذا يعني إعادة تشكيل الوعي الذاتي والبعد الاجتماعي للفرد أو للمجتمع بشكل عام.  لقد كانت إسهامات الفنانين في جميع مجالات الفنون والآداب، وبحسب فلسفة الجمال، هي الحصن الذي دافع عن جوهر الروح وتمظهراتها القيمية، معززاً الدور النموذجي الذي رسمته تقاليد البرناس حارسة الجمال والقيم والسموّ والأخلاق والفضيلة.

في النصف الثاني من القرن العشرين، ومع الانحسار المخيف في القيم الإنسانية والأخلاقية التي سحقتها الحروب وتروس الميكنة وجنون طفرة الصناعة، وميل الإنسان المقهور إلى التمرد والعنف والجريمة، ظهرت الحاجة إلى تكريس قيمة الفن كمعادل موضوعي للوقاية من المخاطر التي صاحبت التحولات الكبرى السياسية والاقتصادية، فظهر مفهوم المشروع الثقافي كاستثمار إبداعي في الفن والأدب لحماية جوهر الإنسان وتحقيق حالة من الانتماء والذوبان في المجتمعات، على اعتبار أن الحالة الإبداعية هي الوحيدة التي لا تنهار أمام أي تغيير في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما أن كلفة الإنفاق على الإنتاج الأدبي والإبداعي وما يحققه من نتائج مجدية، تختصر عشرات الأضعاف الإنفاق الموجه لعلاج العنف والجريمة والأضرار النفسية والاجتماعية، وبذلك وضمن الاستثمار في الثقافة كمشروع اقتصادي شهد العالم صعوداً مدهشاً في إنتاج الفن والأدب، وخاصة في مجالات السينما والمسرح والإنتاج المرئي والمطبوعات، وتحول إلى رافد من روافد النمو الاقتصادي الذي يقود إلى حالة من الاستقرار والرفاه.

يمكن القول، واتكاءً على ما سبق، إن مفهوم الحضارة لم يتشكل إلا من خلال المزاوجة بين البعد المادي متمثلاً في العمران والصناعة والتكنولوجيا والنمو الاقتصادي عامة، وبين البعد المعنوي متمثلاً في الثقافة بتجلياتها الإبداعية والأدبية والفنية. وما يترتب على هذه المزاوجة من تحقيق للرفاه والنمو المستدام، ما جعل الثقافة من العوامل الرئيسة لتحقيق التنمية في المجتمعات، كمشروع اقتصادي يستثمر في الموارد الثقافية من آثار ومتاحف ومعارض وصناعة السينما والطباعة والنشر والتراث اللامادي والمعالم التاريخية، وهي في مجملها تمثل الجانب المادي في حقل الثقافة،  ولكن من زاوية أخرى التنمية الاقتصادية لا تعني فقط  نمو دخل الفرد، بل في بلوغه مرحلة التشبع النفسي والوجداني والفكري والفني والمعنوي، وصولاً إلى حالة السلام والتوافق الاجتماعي، الأمر الذي يجعل من الثقافة حصناً لحماية الروح، لا يقل منعة عن جبل البرناس لدى قدماء الاغريق. ومن منطلق أهمية الثقافة وما يرتبط بها من مزايا وقيم إنسانية ووجدانية، وما يترتب على تلك المزايا من استقرار سياسي واجتماعي يحقق النماء، عملت منظمة الأمم المتحدة على تعزيز هذا المبدأ ضمن مشروعها  (الإبداع البرتقالي) القائم على المعرفة، والتفاعل بين الإبداع الإنساني من جهة والأفكار والمعرفة والتكنولوجيا من جهة أخرى،  (أي بين القيم الروحية والعالم المادي) من أجل دعم أهداف التنمية المستدامة التي أجبرت العالم على الالتفات إلى الثقافة والإبداع كأحد آليات الإدماج الاجتماعي وتحقيق السلم والتعايش وقبول الاختلاف ونبذ العنف والكراهية، وهو يقود إلى الفكرة القديمة ذاتها: طالما هناك إنتاج إبداعي فإن الشرور تتقلص وتتلاشى لأن الإبداع هو وسيلة الإنسان للخلاص.

وفي دول الربيع العربي، الذي انقلب إلى مناحرات وحروب أهلية وتصدعات في النسيج الاجتماعي، تراجعت أدوار الثقافة واغتيلت ربات الفنون وعاد زيوس يطلق شروره وأمراضه، وانشغل الجميع بمحاولة إقفال صندوق الشر وإلقائه في البحر قبل أن ينفجر فيحرق كل شيء، في وقت كان بالإمكان وببساطة شديدة توجيه موارد ضخمة لدعم مشروع ثقافي حقيقي يعمل على تضميد العلائق الداخلية للمجتمع ومعالجة إخلالات التشظي والهزيمة والقهر والانكسار، وكل التداعيات التي خلفتها العاصفة الهوجاء، ليكون البناء في الإنسان موازياً للإعمار المكاني.

ليبيا، التي داهمتها عاصفة الربيع العربي، وتشهد حالتها الانتقالية بتداعياتها وتصدعاتها، لم تتمكن وعلى مدى عقد كامل من الزمن أن توجه مساعيها للاستثمار في المشروع الثقافي كإحدى آليات السلم والتعايش المشترك وخلق فرص ومبادرات تنافسية لنبذ العنف واحتواء الصراع وإدماج الجيل الجديد في منظومة قيمية تؤمن بالإبداع والذوق والعدل والجمال، عندما انفجر صندوق الشرور في ليبيا كانت الخطوة الأولى هي اغتيال (الحسناء والغزالة)*، كرمزية إلى مدى تسفيه الدور الذي يؤديه الفن في تشكيل الوعي المجتمعي وبناء الذائقة الجمالية، ثم انحسرت على نحو تدريجي أهمية الفن والإبداع في سلم الاهتمامات أمام الاحتياج الملحّ لسبل المعيشة اليومية، وعلى الرغم من ضخامة الموارد الثقافية في ليبيا، وهي تمتد في شكل قارة مترامية من الجغرافيا والتضاريس بما تحويه من تنوع ثقافي وبيئي، وتتكئ على الموروث الإنساني الذي تركه إنسان ما قبل التاريخ، في أكبر متحف صخري في العالم، متمثلاً في كهوف الأكاكوس، والمدن والمنحوتات الأثرية التي تركها الاغريق والرومان، والتراث الإسلامي والمحلي، والتراكم الثقافي والمعرفي والفني في حقول الأدب والمسرح والموسيقى والتشكيل، على الرغم من كل هذه الموارد التي تتمايز بين مناطق ليبيا، وتتمازج في فسيفساء من التنوع والانسجام،  إلا أن الاستثمار في هذه الجوانب ظل معطلاً وقاصراً بل ومستباحاً للتدمير والإهلاك. 

ورغم كل الإصلاحات التي تحاول الحكومات ضخها في شريان المجتمع الليبي، والبحث عن وسائل لاحتواء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، إلا أنها تبقى حلولاً مبتورة وهشة ما لم تخضع لحركة الاقتصاد العالمي الذي قرر أن لا استثمار ولا نمو اقتصادي ولا استقرار أو تنمية من دون أن تعبر من خلال بوابة الثقافة، ليس لأنها مكون من مكونات هوية الدولة فحسب، أو لأنها تعزز قيم الانتماء والتسامح والحرية والانفتاح على الآخر، بل أيضاً لأنها مصدر ضخم  لثروات مهدورة يلتفت إليها العالم الآن، وهي ثروات لا تنضب بالاستخدام كما هو الحال في الموارد الطبيعية، بل تتضاعف كلما زاد الطلب عليها. لقد بات من الواجب الآن على الحكومات أن تتجاوز النظرة القاصرة للثقافة، وأن تنزل من برجها العاجي لترى بوضوح كيف يدير العالم أزماته مستنيراً بالثقافة كأحد الروافد والمرتكزات الأساسية للوصول إلى حالة الاستقرار والرفاهية والنمو المستدام.

_____________________________

* منحوتة تتوسط نافورة في العاصمة الليبية طرابلس على شكل فتاة حسناء بجانبها غزالة، تم تدميرها خلال العام 2014م.

صحيفة الشارع المغاربي | العدد: 344 – الثلاثاء 24 يناير 2023م.

مقالات ذات علاقة

وين ثروة البترول.. الحبوني وحِقبة الاستقلال الليبية

محمد دربي

ترنيمة لبلادي …

عزالدين عبدالكريم

شيزوفرينيا

بشير زعبية

اترك تعليق