لما كانت الانتفاضة[i] كان هناك شاهد ومعه كل الأدلة والبراهين اليوم كما كان كل يوم، يحل الظلام ليعود الصمت من جديد والحنين يتسرب إلى الذاكرة، وهناك في البعيد قريتنا صامدة معانقة الجبال والوديان وملامح رصيف بيتنا تحتضن شجرة الزيتون تقابل في الحقل شجيرات تين.
قبل عتمة الليلة الحالك كُل ُّيحكي سالفة ويروي أحداثًا ترسم الريشة ألوان الألم وروايات الرواة تجسد المشهد.
وبعد نهار هذا هو الشيء:
يتخلل عتمة الحارة نيرانهم في السماء ومخاطر الليلة، كما العادة محتملة، يصغر العالم إلا من هذه القرية تكبر وتكبر.
يصرخ الشاب: [أرمي صوب الدورية]. زمن السرد لم يولى بعد فعندما تُقصف الأحياء يختبأ الطفل في الزاوية المظلمة؛ تنهره أمه: [ما تخافش ياما خليك جدع!]
الصمت رهيب إلا من أصوات الهمس في البيوت والسؤال المعتاد:
[ترى هل سيكون هناك مداهمة للجيش هذه الليلة؟]
[حتى لو والله كل شيء متوقع ، بس الكمين منصوب بانتظار الدورية!]
[قريتنا الليلة مستهدفة، وهذا شيء أكيد ولكن هل ستكون الأولى على لائحة القرى أم دورنا سيكون في الآخر؟]
[كيف عرفتي؟]
[على مدى أيام يا صالح وأنا أرى الدورية تأتي في عز النهار للاستطلاع بتأن… تتفقد جغرافية بيوتنا والأحياء تمهد الطريق للغزو، كما رأيت يا أمي فيما رأت نساء القرية معاول الشباب تفتش عن الحجارة بين الصخور.]
ألتفت صالح فجأة الى بيت جيرانه متمتماً:
[ترى من سيغيب عنا الليلة عقب المداهمة؟]
خلال نوم أهالي القرية المتقطع سمعوا أصوات عجلات الدورية المسرعة تتخلل سكون الليل. زجاجة حارقة تُرمى من على سفح الجبل لا بد أصابت الدورية ثم عاد الهدوء الحذر.
يا أيها البحر البعيد حدثهم عن وقائع هذا الدهر.
وهي أبداً منتظرة ذلك كابوس، تخفي قلقها بينما تتغنى ببطولة ابنها تسانده وتمد له يد العون. ذات ليلة أخيرة أطفأت الأنوار والنار وبدا البيت كئيبًا كمن هجره كل شيء إلا الثبات.
أكان لا بُد؟
طرق على الباب، طرق دون توقف ثم ماذا ” سترك يا رب ” يرتجف طفل من الخوف: [ما تخافش ياما لن نخاف.]
انتظرت قليلاً سمرت مكانها دون حراك أو تنفس قد يعودون أدراجهم مع خيبة الأمل.
الطرق يستمر، الباب يُضرب، هناك صوت مثل صوت كعب البندقية. يصرُّ الطارق لم يزال، يصرخ في فناء الدار تغيب العتمة عند ذاك المدخل العتيق، تبادره:
[ماذا تريد يا جبان… لو أنك شجاع قابلني بلباس رجل لا بلباس مراة يا مراة[ii]]
يدفعها محاولاً دخول الغرف بينما تشغله بالصراخ؛ يعلو صوتها هذه المرة أكثر منذرة ابنها بوجود الجيش.
مُصاحبًا بدعوات أمه فتح باب الشرفة الخلفي، لفحه تيار هواء برد لاسع إلا ان ضوء القمر ينير له الطريق، فيثب بجرأة نحو البراح.
داهم الجيش البيت فتشوه تفتيشاً دقيقاً: تحت السرير، خلف الخزانة، ملمس فراش السرير دافئ هو أم بارد، ترى هل نام الليلة هنا؟
بين الحواكير يتوارى، يتأكد الجيران، هذه مداهمة أخرى، هل خرج الناس من بيتوهم أم تبادلوا همسات التحذيرات؟ لا أحد يعلم قد نَجَا المطارد أم لم ينجُو؟
بينما تتقافز الأفكار في رأسها:
هل طوق الجيش الحديقة اَم هو توارى تحت أشجارها العارية من أوراق منتظرة الربيع لتكسو أغصانها من جديد..
هل جروه أو سحبوه يا ترى هل اعتقلوه؟ اغتالوه؟ ام أنه هرب من الكمين ونجا فاراً إلى الجبال.
صراخ الأم يزداد عند حوش البيت، بينما في البعيد صدى إطلاق الرصاص يملآ النفس رهبة…لا بد أنه نجا ليعود حراً طليقاً حتى يصل الى مغارته.
صمت قصير، ربي يحميه!
أهذا صوت زعاريد أم هو الوهم… لكنها أصوات صفافير متبادلة بين المطاردين في الكهوف…
انتهت الغارة.
يهمس السكان بصمت ” أبعدهم عنه يا رب ” والكل يردد آية الكرسي في سره، الله يعمي عيون الجيش عنه…
أنوار الدورية تبتعد… عادت الوحشة بعد أن غاب في الدرب
غداً
عدنما أشرقت شمس الصباح تجمع السكان، وصل موظف من جمعية حقوق الإنسان يجمع رواية الأمس ويوثق حركة الغزو وأقوال شهادات شهود العيان، بينما وقفت الأم في مكان لا تستطيع البوح بكلمة، أمعنت النظر والتحديق ونظراتها معلقة في الهواء بينما تمسح دمعة لا تريد لها النزول حرصاً على ابنها الذي وعدته بعدم البكاء.
قال صالح وهو يعطي المعلومات:
[هذا حدث ليلي لا ينتهي يبحث عن نهاية، يدوي صداه في هذا الكون الواسع الذي ضاق علينا، يا ابني طول ما الاحتلال موجود ستملآ كل يوم استمارة انتهاك]!!!
[الله كريم يا حج الله الكريم]
دَوّنَ الباحث الاستمارة وملاحظاته سجلها في الهوامش، ثم إذ أنه جمع أوراقه والأشياء. ترك القرية وهو يضم الاستمارات الى صدره، لم يدري فالأمور مبهمة! هناك شيء ما يُخفى عن العالم الخارجي؛ يغيب طيفه عن الأنظار ويستمر في السير طويلاً بحثاً عن انتهاكات أخرى يسجلها في ملفات حقوق الإنسان.
بعد ان جاءت الصحافة صورت ومذيعة التلفاز غطت الخبر؛ عندما صار الظهر دخل السكان إلى بيوتهم، بانتظار ليلة ستمر على قرية لا أحد ينام فيها تربُصًا لعودة الجنود…
والأم بقيت من على النافذة تراقب الطريق تمعن النظر والتحديق نحو مغارة تخبر عن الوقت الماضي وتاريخ هذا الحاضر، ليبقى سؤال مبهم ترميه كل يوم للفضاء:
يا ترى أين هو ابني تأخر عني هو والزمان.
[i] الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987 – 1993
[ii] عادة يرتدي الجيش الاسرئيلي أزياة نسائية للتمويه عند مداهمة القرى والمخيمات للقبض على المطلوبين أو بهدف اعتقالهم لذلك أُطلق عليهم اسم “المستعربين” Undercover Soldiers