مرآة الآخر
منذ زمن طويل ولاسيما في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية أصبح ثمة شغف يظهر لمعرفتنا بذواتنا عن طريق الآخر أو بعيون الآخر ربما لأننا لم نعد نُصدّق بعضنا البعض بما فيه الكفاية فصرنا نبحث عن ذاك الذي سيلقي بين أيدينا معرفة الوجه الخفي لنا ربما لأن الآخر أكثر صدقا وحيادية من رواياتنا الملتبسة، وتحقق هذا السعي لترجمة معظم ما كتبه الرحالة والمستكشفون والمستشرقون عن بلادنا، إننا نريد ردم نقاط الجهل ومهاوي الخوف عن ذاكرة الأمس، ورواية الشاطئ الرابع للكاتبة فيرجينا بايلي الصادرة حديثا عن دار الفرجاني للنشر وترجمة فرج الترهوني تجيء في هذا السياق مُحمّلة بزخم المعرفة كيف كان الليبي وكيف بدت تفاصيله، مِحنة إعادة بناء الثقة مع ذواتنا ضرورة ننفض بها الغبار عن أسئلة كيف كنا ؟ وما هي ملامح حكايتنا عبر ذاك البعيد.
دهشة شحيحة
الشاطئ الرابع دفق روائي يصقل الرؤية أمام المرآة لننظر محدّقين نحو تفاصيل أعماقنا وملمس جلدنا المحترق برياح القِبلي, لكن الروائية في هذا العمل لم تشحذ الدهشة في أوصال بطلتها فليليانا لم تكن تحلم بليبيا أو طرابلس قبل أن ترسو باخرتها على مرفأ طرابلس الغرب، القارئ لا يلمس استبداد سحر الشرق الكلاسيكي في عينيّ ليليانا إلا أنها كانت ترغب في الإلتحاق بشقيقها ستيفانو ميكانيكي سيارات السباق الإيطالية الذي رحل عن أهله في مونزا وقرر البحث عن مستقبله في المستعمرة الإيطالية الجديدة لكنّه بدأ يستشعر بوطأة الوحدة ليصطدم أثناء رحلة سفاري مع صديقه في نواحي شرق ليبيا بفريدة التي يُرغمه أهلها على الإقتران بها لكونه قد رآها دون دِثار، ويعود بها لطرابلس، ورغم وقوف ستيفانو ضد سياسة الفاشست إلا أنه كان يُناصر مشروع إيطاليا بغية طلينة كل ما هو ليبي وإسلامي داخل هذه الرقعة من شمال إفريقيا، فاستدعى شقيقته ليليانا ليوكل إليها مَهَمة تنفيذ مشروع طلينة فريدة البدوية الحاذقة وقلبها من النقيض للنقيض واستكمال ما تقوم به زوجة اليهودي ياكوف الذي يستأجر منه بيته بمدينة طرابلس القديمة، بيد أن النتيجة لاحقا غريبة حيث تزاوج ما بين الحضارتين وتلاقح ما بين الثقافتين الشرقية الإفريقية والإيطالية الأوروبية لتخوضا ليليانا وفريدة تجربة هذا التزاوج الحضاري بانتحال كل منهما لهُويتها والتبختر داخل الأزقة العتيقة، المزج الفنتازي هنا يُضفي هامش من التسامح بين طرفيّ الصراع .
الزمن في مفترق الطرق
بمسافة زمنين تتقاطع رواية الشاطئ الرابع 1929عام وصول ليليانا ابنة السابعة عشر عاما و1980 اصطدام ليليانا بحقيقة أن أحد أبناء شقيقها ستيفانو إبرامو اغتيل بواسطة أعوان نظام القذافي في إحدى مقاهي روما وبحقيقة أخرى تمثلت في حفيدتها سعيدة من ابنتها نادية ذات العينين الزرقاوين التي شاءت ظروف الخوف أن تُنجبها وسط خيمة رثة في الفيافي بمعيّة زوجة أخيها فريدة التي كفلت ابنتها طوال سنوات، وكانت الإشارة إلى ذلك الإسوارة الفضية جراء تورطها في علاقة آثمة مع الطيّار أوغو ! يتداخل الزمن ويُشكّل الماضي أرضية صلبة يقف عليها المستقبل، إن غطرسة الطيّار أوغو وتلذذه بتجريف القرى الصحراوية النائية في مقابل تعاطف ستيفانو ورفضه لسياسة الفاشست وإدانته المستمرة لممارسات قادة الحزب في المستعمرة، قاد واقع التضاد هذا للمزيد من الإنفتاح والتشويق إزاء أحلام إحياء أمجاد الإمبراطورية الرومانية وبلاد مترامية الأطراف تأبى الانصهار بحداثة العصر.