الخميس, 17 أبريل 2025
قصة

تَحَرُّر .. أَم خيانة؟

من أعمال التشكيلي عادل الفورتيه.
من أعمال التشكيلي عادل الفورتيه.

“لقد هاجَر الكثير من البشر منذ عقود للعيْش في مستوطنات القمر الأرضي والمريخ و”الشقيق” يوروﭘـا Europa،[1] بل وحتى الزُّهْرَة القائظ،[2] لكنهم لم يلحظوا جاذبية العيْش في ﭽـاناميد Ganymede إلا متأخراً،[3] لم ينتبهوا إلى أن الحياة عليه أيسر وأرخص بكثير إلا بعد نصف ألفية من اكتشافه! فالوثائق التاريخية تؤكد على أن البشر اكتشفوه سنة 1610 بمنظار الفلكي ـاليليو ـاليلي، ورغم أن جدال كبير قد جرى منذ الأيام الأولى لاستيطانه بشأن اسمه حيث طالب الكثيرون بإعادة اسمه القديم: ﭼـاليليو3، (لأنه سُمِّي على شخصية أسطورية يونانية شاذة مُخزية للأسف: ساقياً للخمر وعشيق الإله زيوس اليوناني!) إلا أن الأغلبية البرلمانية رضخت في النهاية لاسمه الحالي، بعد الثراء والرفاهية الكبيرة التي أصابت أهله!

لكنني أحذرك! إن أردت العيْش بيننا لتنال نصيب من رفاهيتنا فاعلم أن السنة فوق ﭽـاناميد مفارقة عجيبة، فهي مجرد أسبوع أرضي!! ولهذا نتردد عادة في ذِكْر أعمارنا المُسجَّلة رسمياً هنا لصديقاتنا على المستوطنات البشرية الأخرى! فسنة أرضية واحدة تعادل 52 سنة مما نَعد على ﭽـاناميد![4]

ومع أنه في مرتبة القمر، إلا أنك لا يجب أن تقول ذلك لسكانه إذا أَمِلْت في احترامهم! إذ يفخرون بأنه كان ليُصَنَّف ككوكب إذا كان يدور حول شمسنا، فحجمه أقل بقليل من المريخ ويفوق حجم عُطارد وكذلك القمر الأرضي، جاذبيته كجاذبية هذا القمر، أي أنك ستكتسب الرشاقة فوراً هنا! ستحتفظ فقط بِسُدس وزنك! أما سطحه فيتكون من نِسَب متساوية من صخور السيليكات وجليد الماء! والآن فهمت سر سعادتنا! فطالما توفر التراب والماء.. توفرت كذلك الحياة! كما أننا اكتشفنا مياه بحر مالحة جوفية فيه! مُحيط على عمق 200 كلم تحت سطحه يحوي مياه مالحة أكثر مما تحويه كل محيطات الأرض! وهو كذلك القمر الوحيد في مجموعتنا الشمسية المعروف بامتلاكه مجال مغنطيسي، وإن كان ضعيف إلا أنه سيجعلك محمياً من الجرعات العالية المميتة من الإشعاع الكوني الذي يتعرض له سكان المستوطنات الأخرى، وبما أن الجو هنا بارد جداً، يتراوح من -113 إلى -182 درجة مئوية قررنا منذ عقود استلهام أسلوب “بيوت الحفر” المعتاد في جبل نفوسة الواقع في شمال قارة أفريقيا في أرضنا الأم، فصارت مدننا أشبه بحُفر وأنفاق الأرانب! أنفاق وساحات وبيوت عملاقة محفورة تحت مستوى سطح كوكبنا بقليل، مع أبراج ضخمة متعددة تنتأ منها وتخترق السطح لاستخلاص الهواء الذي نتنفسه، إذ أن لكوكبنا غلاف جوي كذلك! يتوفر فيه القليل من الأكسجين والهيدروجين الضروريْن للحياة[5] أغنتنا عن إنشاء مصانع ضخمة لإنتاجهما مثلما تفعل المستوطنات البشرية القديمة الأخرى خارج أرضنا الأم، مكتفيين بمختبرات نقالة تستخلصهما من الجو، أما مفاعلات الطاقة النووية الانشطارية فقد وفرت لنا الكهرباء والحرارة اللازمة للتنعم بالبقاء في بيوتنا ومكاتبنا دون الانشغال بابتعاد شمسنا الكبير عنا، أما سيطرتنا التامة على تجارة جني الألماس من جو “أبينا” المشتري[6] بعد منافسة شرسة مع تجار يوروبا فقد جعلتنا أمة عظيمة سريعة النمو لا مجرد مستوطنة بشرية بعيدة!  

هل أثقلت عليكم بكيل المديح لوطني؟ أعذروني، لكنه ليس خطأ أن يفخر أحدهم بوطن لم يَحْرِم مواطنيه من الرفاهية، فبالرغم من البُعد الكبير عن أرضنا الأم – مما يزيد من تكلفة النقل والسفر بيننا – نَمَت أولى مستوطناتنا هنا بشكل سريع جداً، وفي الوقت الذي لا نجد فيه أكثر من بعض مدن صناعية على الزُّهْرَة والمريخ وبعض المزارع والمناجم المغلقة على قمر الأرض، تناثرت المدن وشركات المزارع المائية الضخمة[7] التي تستثمر المياه المالحة الهائلة أسفل قشرة كوكبنا في تربية أنواع هائلة من الأسماك الأرضية الأصيلة والمعدلة وراثياً هنا، كما تجد المختبرات القطبية والبحرية متناثرة في طول سطح ﭼـاناميد وعرضه.

غير أن ما أعاق ازدهار حياتنا بما يفوق ازدهارها الحالي هو بالضبط ما فعلته دولة قرطاج العتيقة في التاريخ القديم لأرضنا الأم مع مستعمراتها الليبية لبدة وأويا وصبراتة المجاورة لها،[8] فقد كانت حكومة الاتحاد الأرضي تأمل من مستعمراتها خارج الأرض أن تخدم مصالحها الاقتصادية فقط، وقد رضيت هذه المستعمرات بذلك بصورة عامة في البداية، حيث امتنعت عن صنع السلع المنافسة لمثيلاتها الأرضية، ومثلما فعلت قرطاج مع منافسيها اليونانيين حينما هددوا تجارتها بمحاولة إنشاء مستعمرة جديدة لهم قرب آخر حدودها الشرقية (في وادي كعام)[9] بدأت حكومة الاتحاد الأرضي بتغيير سياستها الاقتصادية الخارجية بعد قمع ثورات مطالبي الاستقلال على المريخ والقمر الأرضي، وذلك بتشديد قبضتها على مستعمرتها الثرية المرفهة البعيدة هنا، حيث صوَّت برلمان الأرض على ضرورة وجود جيش أرضي مرابط بشكل دائم في ﭼـاناميد، أما قمة السخرية فقد كانت إصدارهم قانون جديد يُلزم سكان ﭼـاناميد بأن تؤمن لذلك الجيش الثكنات والتجهيزات!!

وفي الوقت الذي خضعت فيه مستعمرات المريخ ويوروبا وأذعنت مزارع قمر الأرض الضعيفة، لم يكتف سكان ﭼـاناميد برفض الانصياع لهذا القانون، بل غاصوا أكثر إلى الأمام فرفضوا دفع الضرائب الجديدة الباهظة والقديمة على السواء، بحجة عدم تمثيلهم في البرلمان الأرضي، الذي كان أصلاً نزاع دستوري قديم طال سكوت الـﭼـاناميديين عنه، مما جعلنا نشتهر بعد هذا الحدث بلقب “المُرتدون”!

لقد عقد برلماننا العديد من الجلسات العادية والعاجلة لإقرار رُزمة من القوانين الجديدة التي تخدم مصالح شركاتنا ومؤسساتنا النامية، لكنه تعثر في نقاش بيزنطي طال أكثر من اللازم حول ما إذا كان استقلالنا – الذي يطالب به العديد من النواب – يُعَد تحرر أم خيانة للوطن الأم (الأرض) طالما أننا من أبعد مستوطناتها، ونعيش ازدهار تكتلات الشركات العابرة للأقمار، المتحكمة في كل اقتصاد المستوطنات البشرية فوق وخارج أرضنا الأم.

لقد ترافع النواب المؤيدين للاستقلال بأن خائن الوطن هو من يكون السبب في أي خطوة يخطوها أي عدو داخل أرض الوطن، لكن استقلال الـﭼـاناميديين ليس فيه شبهة من ذلك، فنحن من أصل أرضي مثلهم كذلك، لذا إقامتنا لا تعني دخول أي عدو هنا، غير أننا لسنا فقط مستقلين فعلياً عن أرضنا الأم من الناحية الاقتصادية، بل صارت هي ذاتها عبء على اقتصادنا، مما يُذَكِّرُنا بحقيقة استقلال الولايات الأمريكية عن بريطانيا وطنها الأم في التاريخ الأرضي القديم، فهل بإمكاننا محاكمة الأمريكيين بالخيانة على ذلك؟ لنبدأ في محاكمتهم إذاً قبل أن يحاكموننا!

من ناحية أخرى، يدفع النواب المعارضين لاستقلال ﭼـاناميد بأننا مجرد فضائيين أرضيين في النهاية! ومستعمراتنا هنا ليست سوى ولايات أرضية يعود الفضل في تأسيسها إلى أجدادنا الأرضيين من شعب الإسكيمو الذين آثروا على أنفسهم العمل بكد مضني في هذا الجليد دون أن يتزوجوا أو حتى يحلموا بالتنعم بميزات حياة الأرض ناهيك عن ما نشهده من ازدهار كبير اليوم، هؤلاء استندوا في دفوعهم على القانون الدولي الأرضي بشأن حق الانفصال عن الوطن الذي اتفقت برلمانات المستوطنات خارج الأرض على اعتماده (أو لنقل أُجبِرت على اعتماده!) مع تعديلات طفيفة تتناسب وظروف العصر الذي نعيشه، فماذا يقول القانون الدولي بشأن الانفصال عن أرض الوطن؟

ببساطة ليس هناك حق للانفصال في القانون الدولي! فالقانون يضمن للشعوب تقرير مصيرها، لكنه يضمن للدول وحدة أراضيها أيضا، البعض يعتقد أن في ذلك تناقض، غير أنه ليس هناك أي تناقض إذا علمنا بقية شرط الموافقة على الانفصال: … أن يتفق الطرفان عليه، وحكومة الاتحاد الأرضي ترفض استقلالنا بالطبع، حتى حق تقرير المصير له شرط وجب توفره، فهو غير مُتاح للجميع داخل الوطن وإنما لشعب مميز مختلف يعيش فيه داخل أرض واحدة محددة ليستطيع الاعتماد على أخذ موافقة بدء التصويت لتقرير المصير، أي أن جزءاً من سكان الدولة الوطنية ليس شعباً بالمعنى الدولي حتى لو كانت له هوية مميزة،[10] وبما أن سكان ﭼـاناميد اليوم هم خلطة أرضية كاملة بامتياز، فنحن لسنا شعب مميز، لذا لا يمكننا أن نستند على حق تقرير المصير للمطالبة بالانفصال، بل لا يمكننا حتى البدء في التصويت عليه. 

وبعد سنوات أمضاها برلماننا في نقاش بيزنطي عقيم .. فاجأنا الغزو الأرضي الكبير بغتة في سِرِّية تامة، سَرِية الشرطة القضائية الصغيرة التي قالوا إنها آتية لأخذ مكان سابقتها لم تكن سَرِية ولا شرطة ولا صغيرة! جاءوا في البداية يزعمون أنهم قادمون لدعم الديمقراطية البرلماني، ولضمان أمن وحسن سير جلساته ومنع انتشار الفوضى في باقي المستعمرات، غير أن الساعات القليلة التالية أثبتت أنه مجرد غزو آخر بغرض السيطرة على الثروات، استدعائهم لرئيس برلماننا بزعم التشاور كان مجرد طريقة خبيثة للقبض عليه ونقله إلى أرضنا الأم، أما الشرطة التي توزعت أمام بوابة البرلمان لتوطيد حُسن سَيْر النقاشات بداخله فقد كانت نخبة القوات الخاصة لإحكام السيطرة عليه وتوجيه قراره نحو رفض الانفصال.

نسيت أن أقول لكم منذ البداية إنني ضابط استخبارات برتبة عميد لصالح حكومة الاتحاد الأرضي هنا في ﭼـاناميد، لكنني كذلك من مواليد قرية تانيت هنا،[11] ودرست كل مراحل تعليمي بمدينة ملقارت[12] هنا في ﭼـاناميد كذلك، وكنت أعتقد حتى ما قبل الغزو بساعة أنني أوطد الأمن وحُسن نمو الازدهار هنا الذي تسعى إليه حكومة الأرض البعيدة، فـﭼـاناميد وطني والأرض وطن أمي وأجدادي، لكن بعد هذا الغزو المُشين أجد من واجبي الوقوف مع أهلي مواطني ﭽـاناميد، فالخيانة ليست فقط بالانفصال عن أرض الوطن، إن تدمير اقتصاد الوطن هو خيانة كذلك ولو كان علي أيدي بعض من أبناء الوطن ذاته! نعم هي مفارقة قد يصعب استيعابها اليوم، لكن كم من مثيلها شهدته البشرية؟ في تاريخ العرب القديم قال أبو ذر الغفاري لمعاوية بن أبي سفيان – مؤسس مملكة الأمويين – حينما رآه يبني قصراً باذخاً: إذا كان هذا من مالِك فهو الإسراف .. وإن كان من مال الأمة فهي الخيانة![13]

على أي حال كان جزاء صراحته … الاغتيال! وأنتظر تكراره على نفسي في أي لحظة، متمنياً فقط ألا يكون ذلك على يد أحد أبناء عمي!

أستأذنكم الآن في التوقف عن كتابة وصيتي بقلمي الحبر القديم، فأنا لا أثق في الذواكر الحديثة لأنها سرعان ما تتلف وتضمحل طاقتها ومن السهل الوصول إليها ونسخها والتجسس عليها بل وحتى نسبتها إلى غير كاتبها، أستأذن التاريخ في الذهاب سريعاً للالتحاق بأهلي المظلومين، ولا أدري إن كان بإمكاني العودة سريعاً إلى هذه المذكرة لإتمامها.”

وُجِدَت هذه الكلمات مكتوبة في كراسة أثرية عُثِر عليها صدفة بعد مئات السنين في إحدى خرابات قرية تانيت الأثرية، حيث هُجِرت بعد القضاء على آخر ثورة حاول أهلها القيام بها ضد غزو الجيوش الأرضية، هذه الكراسة معروضة الآن مفتوحة من وسطها في إحدى العارضات الزجاجية الصغيرة للمتحف الحديث لقرية تانيت ولا يُعْرف كاتبها.

15-19/10/2017


فازت بالترتيب التاسع في مسابقة “الفضائيون” التي نظمتها “الجمعية المصرية لأدب الخيال العلمي” في الفترة من شهر 7 إلى أول شهر 10 سنة 2021

[1]) من أقمار كوكب المُشتري، يُعْتَقد أن سطحه مُكَوَّن من قشرة جليدية عمقها نحو 100 كلم، تحتها محيط من الماء أو جليد غير متجمد تحته قلب من السيليكا، أي المكون الرئيس لرمال الأرض، أحد أمكنة قصة “مجرد سائق أجرة” في مجموعتي الأولى “مشكلة إيمانية”، حيث كتبته هناك هكذا: أوروبا وثبت له أن رسمه الصحيح هو يوروﭘا.

[2]) شديد الحر دائماً، خصوصاً في منتصف شهر الصيف.

[3]) أحد أمكنة قصة “مجرد سائق أجرة” في مجموعتي الأولى “مشكلة إيمانية”، مع ملاحظة أنني رسمت الاسم حينها هكذا: غانيميد، حيث لم يكن بإمكاني آنذاك كتابة حرف ج كما يُنطق في اللهجة المصرية، ثم توفر لدي المقابل العربي لهذا الحرف (ﭽ) وتبين لي أن نطقه الصحيح هو ﭼـاناميد.

[4]) كلها حقائق علمية.

[5]) كلها حقائق علمية.

[6]) حقيقة علمية.

[7]) أشرت إليها في قصة “مجرد سائق أجرة” في مجموعتي الأولى “مشكلة إيمانية”.

[8]) حقيقة تاريخية.

[9]) حقيقة تاريخية.

[10]) حقائق قانونية.

[11]) إسم آلهة الخصب والنماء لدى الفينيقيين والقرطاجيين، اعتمده الاتحاد الفلكي الدولي سنة 1979 لإحدى حفر هذا القمر، حيث أقر اعتماد أسماء شخصيات حقيقية وأسطورية من تاريخ شمال أفريقيا والشام ومصر ووادي الرافدين لكل حفر القمر.

[12]) إسم حقيقي اعتمده الاتحاد الفلكي الدولي سنة 1979 لإحدى حفر هذا القمر، على اسم آلهة مدينة صور الفينيقية.

[13]) حقيقة تاريخية.

مقالات ذات علاقة

الشفرة

أحمد يوسف عقيلة

السامرائي

سعد الأريل

الايام الخوالى

المشرف العام

اترك تعليق