أنا متفائل حتى عندما تكون الدموع في عيني
تحرير: رولاندو شارتا
مقدمة وترجمة: أحمد الغماري
يبدو أننا لا نحتفي ولا نطلع على منجز قاماتنا المبدعة إلا بعدما يغادروننا ويرحلون عن حياتنا، هذا بالفعل ما يحدث في كل مرة عندما يغادرنا أحد المبدعين، كأن قدرهم جميعاً ألا يحتفى بهم إلا بعد ورحيلهم إلى دار القرار. كان من بين أولئك المغادرون مؤخراً الشاعر الكبير علي صدقي عبد القادر، الذي بدأتُ أسمع بعد رحيله من يطالب بإقامة ندوات بحثية عن شعره وعن منجزه الإبداعي، في الوقت الذي لم نشهد في حياته -إلا نادراً- من قدم بحثاً أو دراسة نقدية عن شعره، بل على العكس من ذلك تماماً، فثمة من كان يتفه منجزه الإبداعي الذي يثبت يوماً بعد يوم مدى حداثته ورسوخه بين التجارب الشعرية الليبية المعاصرة. وإن كنتُ في هذا السياق ألقي باللوم على الأخرين؛ فإن ألوم أوجهه إلى نفسي لعدم اطلاعي إلا على النزر اليسير من تجربته الإبداعية طيلة السنوات الماضية.
هاأنذا اليوم أطلعكم على جزء من لقاء صحفي تمكنتُ من الحصول عليه صدفة، كان قد أجراه معه الشاعر والناقد الفني الإيطالي “رونالدوا شارتا” سنة 1987 على هامش إقامة مهرجان للشعر بجزيرة”mazara de vallo” بمشاركة كوكبة من الشعراء من الدول المطلة على البحر المتوسط. سيلمس فيه القارئ الحفاوة والقيمة الأدبية التي كان يتمتع بها الشاعر علي صدقي عبدالقادر لدى الشعراء المشاركين في المهرجان، ومدى إصراره على المشاركة وحرصه على إعطاء صورة حسنة ومشرفة عن بلده ليبيا. استهل الشاعر الإيطالي اللقاء بالعنوان والمقدمة التالية:
في لقاء مع الشاعر الليبي على صدقي عبدالقادر: “الموت كلمة دون معنى .. و أنا أعيش منذ ملايين السنين”
في الدورة الخامسة عشرة لشعراء شعوب البحر المتوسط التي انعقدت في جزيرة “mazara de vallo” في الفترة من 18-22 إبريل1987 وحملت الكثير من المفاجآت السارة، كان من بينها حضور الشاعر الليبي علي صدقي عبد القادر، الذي كان لي شرف التعرف عليه منذ الأمسية الشعرية التي أقيمت في مدينة “struga” بماشيدونيا سنة 1983. بالفاعل كانت مفاجأة لي ولباقي المشاركين في الملتقى -لاسيما وأننا لم نكن نتوقع- قدوم الشاعر الليبي علي صدقي إلى جزيرة “mazara de vallo” بعد الأحداث التي وقعت مؤخراً في حوض خليج سرت، وفي قناة وحوض جزيرة صقليا. لكن على صدقي عبدالقادر كان مصراً على المجيء، رغم الصعوبات التي وجهها أثناء تردده على شباك القنصلية الإيطالية بطرابلس للحصول على تأشيرة دخول إلى إيطاليا. فعندما رفض طلبه تظاهر أمام مبنى القنصلية ليعلن عن استنكاره بهذه الكلمات: “أنا لست إرهابياً أنا شاعر” وقد أرسل لي بعدها إبراقاً يعلمني فيه عن هذه الحادثة.
ومن خلال خبرتي الطويلة في تنظيم مثل هذه الملتقيات، أطلعت المشاركين في المهرجان على هذا الإبراق، وبإصرار وجدية علي صدقي عبدالقادر ذاتها قمنا بتحويل الإبراق لوزير الخارجية “جوليو اندريوتي”، لكي يتدخل ويتم السماح لعلي صدقي بالدخول إلى إيطاليا. في مساء 21 من إبريل كانت المفاجأة الحقيقية، عندما دخل علينا الشاعر الليبي وبهيأته المعتادة، ساعة نهاية الفقرة المسائية التي أقيمت بدار “عرض “eden في “mazara de vallo” التي عقبها عرض فرقة باليرمو الفولكلورية “u carrittieri”. بعد كلمة مليئة بالحيوية والنشاط حيا فيها الحضور أعلن عن وصوله للمشاركة بالمهرجان قائلاً بصورة لا تخلو من الخشونة ولكن يغلفها اللطف: “حتى الإزهار الصغيرة لها الحق في العيش إلى جانب الأشجار الكبيرة.” واستقبل الحضور هذه الكلمات بهتاف مرددين “السلام السلام السلام “، وفي صبيحة اليوم التالي، وهو اليوم الأخير من المهرجان التي كانت مخصصة لشاعر يوغسلافي من شعراء الحداثة، قام الشاعر علي صدقي عبدالقادر ليأخذ الكلمة مرة أخرى، وعبرّ عن رسالته السلمية من أجل الصداقة والتآخي، وقد استقبلت بالتصفيق والارتياح من الحضور، الأمر الذي جعل الشاعرة الإيطال- أمريكية santima grillo وهي التي كانت قد وصلت من نيويورك للمشاركة في هذا الملتقى، تنهض وتتوجه للشاعر الليبي علي صدقي عبدالقادر وتعانقه، لحرصه وإصراره على الحضور ودعوته للصداقة، وعلى الروح الأخوية التي يجب أن تسود بين الشعوب، الأمر الذي يعتبر معجزة الحب والشعر بحق.
إذن هنا علينا أن نتساءل من هو – في واقع الأمر – علي صدقي عبدالقادر؟ ونجيب أنه المحامي ذو السمعة الحسنة. ولد في طرابلس سنة 1928. يتكلم ويكتب اللغة الايطالية، نشر العديد من الدواوين الشعرية منها “أحلام ثورة” 1959.”صرخة” 1962. “وزغاريد ومطر بالفجر” 1966. “وضفائر أمي” 1972. “واشتهاء مع وقف التنفيذ” 1979. هذه السيرة الذاتية القصيرة التي خصها الأستاذ ” kip nagm eddin” في كتاب يحتوي أيضاً على أشعاره تحت عنوان: (علي صدقي شاعر الشباب)، ما جعلنا نسأله لماذا يسمونك بشاعر الشباب؟ فقال “لأنني أتكلم عن الحياة وعن الشباب والحب.” وطبعاً يقصد بذلك المعنى الروحي للكلمة. بعد هذه الدردشة معه قررت أن أجري معه هذا الحوار وتوجهت إليه ببعض الأسئلة.
رولاندو. ماذا يعني الشعر بالنسبة إليك؟
علي صدقي. الشعر بالنسبة إلي كأصابعي الخمس الموجدة في يدي، كرائحة أمي أيضا، والابتسامة التي أنا أحبها. الشعر كخبز الملائكة، وبالشعر أستطيع أن أقدم هويتي وأقول مرحباً! لأولئك الذين أحبهم. أما أولئك الذين ليس لديهم ألفة مع الشعر، هم في خصام مع الربيع. أجساد التي تحت ملابسهم الخالية من الشاعرية، لو كنتُ في مكانهم لتركت هذه الحياة وأعطيت قلبي لأول قط أجده عند إحدى الزوايا في أحد الأزقة بطرقات.
رولاندو. إذن ما دور الشعر؟
علي صدقي . نحن لا نعيش في أوراق السجلات المدنية الصفراء، الموجودة بالبلديات، إنما نعيش في الكلمة الطيبة التي لديها معنى وتعبر عن الحب والحياة، يتقنها الشعر، فالشّعرُ حياة أخرى.
وعندما نحيا في الكلمة الجميلة، نحيا مرتين، لأن الكلمة ليس لها حدود كالحدود الموجودة بالأرض، ليست مشروطة بتواريخ، ولذا حتى تلك الكلمات التي تنام في المعاجم، تجدد حياتها كل ليلة سبع مرات عندما ينام العالم.
صحيح هناك كلمات كلاسيكية، لكنها تجدد شبابها باستمرار، بعد عقود طويلة تظهر مرة أخرى تحت نافذة من يحلم بالحب والجمال .
رولاندو. ينادونك بشاعر الشباب وهذا يعني أنك شاعر الحياة، لكن ماذا يعني لك الموت؟
علي صدقي. الموت بالنسبة لي غير موجود، لأني تخاصمت معه قبل أن ولد. لهذا السبب شهادة ميلادي التي تسجل تاريخ يوم مولدي، غير صحيحة، بل هي كاذبة. أنا ولدت في عائلتي منذ مئات آلاف السنين، لذا الموت بالنسبة لي كلمة مجهولة، في معاجم قديمة. الموت كلمة فارغة من أي معنى، أولئك المتشائمون هم من يعبرون عنها بالمعاني المشينة. أما أنا متفائل حتى عندما تكون الدموع في عيني، لأنني دائما مع أمي. كما أن الكلمة لا يجب أن تكون مسطحة بل يجب أن تترك للقارئ مساحة من الخيال.
تعريف. رولاندو شارتا: هو شاعر وناقد فني ومنظم للملتقيات الشعرية والفكرية وأحد مؤسسي حركة الأدبية التي عرفت بـ’Antigruppo”في مدينة بلارمو بجزيرة صقلية. له عدة دواوين شعرية ترجمت لأكثر من عشرون لغة عالمية كما أنه من النقاد المتميزين في عالم الفنون التشكيلية.
_______________
نشرت هذه المادة بصحيفة أويا في الصفحة الأدبية (الثقافية) شهر يناير 2009.