إيمان محمد – مصر
تأليف: يوسف السباعي.
الناشر: مكتبة مصر.
تبدأ الرواية بتعرفينا بـ”سامية” الطالبة الجامعية المجتهدة فائقة الذكاء مختلفة الفِكر التي تسعى خلف أحلامها في نيل الدكتوراة وتزعُّم الحزب النسائي وربما رئاسة الوزارة من بعدها، تقيم حول نفسها حصونًا وتزدري الجنس الآخر معتبرة كل محاولاتهم للتقرُّب منها أفعالًا صبيانية ما تلبث أن تصدَّها وتضع أصحابها في مكانهم الصحيح، حتى تلتقي بـ”كمال” أستاذ الإنجليزية الذي يُدرِّسها بالمعهد فتنجذب إليه وينتهي الأمر بها بالوقوع في حبه لتكتشف أنَّه يبادلها نفس الشعور ويسألها أن يتقدم لخطبتها، ويبدأ كل منهما بإعلام أهله بالأمر فتنكشف صلة قديمة معقدة بين العائلتين، وتأخذ القصة منعطفًا آخرًا وكأنَّ الكاتب بدأ القصة الحقيقية للتو فيسرد لنا حكايا من الماضي عن هذه الصلة المعقدة ويستوفيها حتى آخرها، قصة الحب التي تعارضت مع كل منطق وعقل وعُرف والتي بلغت من التعقيد والغرابة درجة عصيَّة جدًّا شملتها من بدايتها حتى سطورها الأخيرة.
بدأت الفكرة سطحية جدًّا مُتوقَّعة سريعة التصاعد بشكل مبتذل حتى يمر الفصل الأول، ثم تنقلب الأحداث كما ذكرت إلى سرد قصة أخرى مختلفة ليس على مستوى الأحداث فقط بل وعلى المستوى الأدبي كذلك؛ تغيَّرت طريقة السرد الخفيفة الألفاظ إلى أخرى ذات ثقل وتراكيب وجزالة نوعًا ما، مع القصة التي بدت ملحمية مقارنة بالأخرى الساذجة التي ابتدأ بها الرواية والتي لم تكن سوى مقدمة وُضعت وضعًا للوصول إلى نقطة البداية التي أرادها الكاتب والتي تخلى عن الإتيان بها مباشرة بها لسببٍ ما.
الفكرة جيِّدة تناولها كاتب بارع متمكن من أدواته، أسلوبه قوي في السرد يستطيع التأثير على عاطفة القارئ بتعبيراته النافذة ونصوصه الحارة، استخدم الفصحى المتوسطة التي لا تخلُ من قوة في غير تعقيد، كما ضمَّن الحوار بعض الألفاظ وأحيانًا جملًا كاملة بالعامية يقترب من خلالها للواقع.
لكن العمل لم يخلُ من سلبيات عديدة بدا بعضها جليًّا للقارئ العابر وبعضها مستترًا يحتاج للتفكير.
وعليه يمكننا تقسيم مناقشتها إلى قسمين وتناول كل قسم على حِدة.
أولًا: الجانب الأدبي:-
– النقطة الأولى: وضع الكاتب قصته في إطار رومانسي وطعَّمها بلمسات من المعاناة والألم والعُقد، إلَّا أنَّه لم يوفَّق في رسم المدخل المناسب للقصة فوضع بداية ضعيفة تبدو إما أنَّها مجرد تمهيد غير متقن إلى الموضوع الرئيس، أو أنَّها فكرة بدأها ثم وجد أفضل منها بعد كتابة بعضها فانجرف خلف سرد الفكرة الطارئة دون أن يتخلى عن القديمة وربط بينهما على عجل فبدت مفككة ككل.
– النقطة الثانية: لجأ الكاتب في رسم الحبكة وحل مشكلاتها إلى الصُدف بشكل مبالغ فيه، فالشخصيات كلها تتلاقى خيوطها معًا على سبيل الصدفة. كان يمكن قبول الأمر لمرة واعتباره مخرجًا لم يجد غيره لمأزق في الحبكة، لكن تكراره أضعفها جدًّا وأفقدها الواقعية.
– النقطة الثالثة: لم يراعي الكاتب الواقعية والمنطق في تحوُّل الشخصيات وتطوُّرها، مثلًا: تبدُّل شخصية سامية من فتاة تعتد بأحلامها وتبالغ في طموحها إلى فتاة خاضعة ترغب أن تكون ربة بيت الفتى الذي أحبته ضاربة بأحلامها عرض الحائط ومصرحة بهدوء أنَّها مجرد تفاهات الآن، هذا التحول غير مقبول هكذا فجأة وإن كان مستنكرًا ككل فكان من الممكن أن نتقبله إذا تم تدريجيًّا مع صراع داخلي -على الأقل- في نفس سامية. الأمر مُقاس على عدد من الشخصيات الأخرى تلاحظها بلا عناء أثناء القراءة.
ثانيًا: الجانب الفكري:-
ساق الكاتب العديد من الأفكار عبر سلوك شخصياته، أفكار تثير جدل القارئ المتمعِّن وتستفزه، منها:
– رسم نمطًا ضيِّقًا لتفكير المرأة وحصر دورها في رعاية بيت وتربية أولاد، لا نغفل أهمية هذا الدور ولا جدال في سموه كهدف، لكن فكرة سوقه بهذا الشكل ووصفه بمصير أوحد لا وجود لمستقبل غيره ومن غيره لأي فتاة، وعدم ترك مساحة لمعاكسة هذا الرأي، فلو اعتبرناه رأي فئة معينة من المجتمع مثلًا لكان من الأولى أن يصنع شخصية مقتنعة بهذا الفكر لا أن يرسمها مناهضة لهذا الرأي ثم يجعلها تتخلى عن قناعتها راضخة له معترفة بخطئه، مع تكراره لنفس العبارات على ألسنة شخصيات مختلفة، فما الفائدة هنا سوى القصد إلى إثبات هذه الفكرة؟
– أفسد الكاتب الروابط الإنسانية وسخَّف المشاعر بطريقة صوغه لها، فوضع مبررات لخيانة الزوج لزوجته وأظهره في موقف غير المُعاب عليه، كما جعل الأم تتخلى عن ابنها الوليد بسهولة وتتركه دون سؤال أو اشتياق أو تفكير لسنوات طوال معلِّلًا أن روابط الدم زائفة وروابط العِشرة هي وحدها الحقيقة! ولا نستغرب بعد ذلك جعله لرابطة الحب سخيفة فاسدة لا بد تتضمن غزلًا وتلامسًا وتخليًا عن الكرامة.
– أكثر الكاتب من صناعة المفارقات بين الآراء دون نصرة رأي -ظاهريًّا- على الآخر، لكنَّه كان يعرض رأيًا عدة مرات ويعرض الآخر مرة واحدة، يقوِّي أحدها ويُضعف الآخر حتى يختفي، وغالبًا ما يكون الرأي الباقي حتى النهاية هو الرأي الفاسد. لا أرى سببًا في ذلك إلا أن يكون الكاتب محبَّا لإثارة الجدل.
وأخيرًا، “بين الأطلال” رواية تستحق القراءة والإطلاع والاستمتاع بحالتها الغريبة وتجربة مشاعرها الخاصة، قراءة لا تتعدى المتعة فقط.
اقتباسات من الرواية:
1-“كانت تعرف أن سبب الاستعباد هو العجز والحاجة، فالمرأة مستعبدة.. لأنها تجلس على قارعة طريق الحياة.. منتظرة من يأخذ بيدها فيأويها ويطعمها ويكسوها، ويعطيها اسمًا ومعاشًا.. إن مصيرها في الحياة وأملها في الأرض معلقان على عابر السبيل الذي سيتناولها من بين آلاف المنتظرات ليسير بها في ركب الحياة، وبغير هذا تبقى العمر مترقبة تتلهف في إعياء ويأس.”
2-” كانت مخلوقة جذابة مسيطرة، لم تحاول قط أن تستعمل في سيطرتها سلاح المرأة، فقد كانت تعلم أنه قد يكون مرهفًا حادًا، ولكنه قصير الحد، سطحي الإصابة، محدود الأثر.. أما سلاح الذكاء وفطانة الذهن، وطيب الخلق، وحسن المعاملة فقد كان أوسع أثرًا وأبعد مدى.”
3-“قاتل الله كل قلب مرهف خفَّاق.. إنه يورد صاحبه موارد المذلة والضعف والحاجة.”
4-“ولكن أترين كتابتي عنك حقًّا دواء أم هي أهيج للعلة وأيقظ للداء؟
أترينها حقًّا ستسكن طنين العاصفة في أذني أم ستزيده حدة؟ سواء عليّ أسكتته أم هيجته.. إني كاتب، كاتب، فما تبقى لي بعد ما حدث سوى الكتابة، ولن يستطيع إنسان كائنًا من كان أن يمنعني منها.”
5-“وما قيمة حبك أو ميزته أو قوته إذا كنت تضمنين دوامه بشرط ألا يحدث في طريقه خصام؟ إن أي حب عادي سطحي يمكن أن يدوم بسهولة مادام لا تعترضه عقبات الصد والخصام.
ولكن الحب القوي العميق هو الذي يتميز بثباته أمام تلك الهزات وبتخطيه لكل ما يصادفه من عقبات وعثرات.”
6-“ما أعجب الإنسان الذي يأبى السمو، ويرفض إلا أن يبقى إنسانًا كما هو!!
كم ظننت قبل أن أعرفك أن أقصى متعة لي هي أن أُمجَّد ككاتب. فلما عرفتك ومجدت فيّ فكري وكتبي وآرائي، وجدتني أكره الكتب والفكر والآراء، وأتلهف إلى أن تحبيني كإنسان عادي، ومخلوق بدائي.. من مخلوقات الغابة.
ما أشد أنانية الإنسان.. أناني حتى مع نفسه، وفكره وذهنه!!”
7-“إن شر ما في الهجر أنه ما من إنسان يملك للمهجور عزاءً إلا الهاجر، وأين للمهجور عزاء الهاجر، وهو ممعن في هجره!”
8-“حمدًا لله أن جعل رؤوسنا منطوية على ما فيها، وإلا ماذا ترى يحدث لو كان كلٌ منا يرى ما في ذهن الآخر؟”
9-“فما كرهت في حياتي أكثر من شعور الرثاء.. إن الفشل نفسه لم يكن يحزنني بقدر ما يحزنني ما أتوقعه من رثاء الناس لي على ذلك الفشل.”
10-“لقد كنت أفهم الموت دائمًا على حقيقته.. أفهمه على أنه نهاية واجبة لحياة أكرهنا على تحمل متاعبها وآلامها، لقد فهمت الموت دائمًا على أنه نومة مريحة، وأنا ما أحببت في حياتي شيئًا كالنوم، فهو ينزعنا من كل متاعبنا ومضايقاتنا ويتركنا في خير حالة من الطمأنينة والراحة.”